دروس من الثقافة الفنلندية بعد عامين من العمل معهم
أهدتني الأيام فرصة جميلة للعمل في شركة فنلندية رائدة، كانت قد حازت على ترتيب عال في قوائم أفضل الشركات في التعامل مع الموظفين بأوروبا لخمس أعوام متتالية، وكانت إحدى أهم مزايا هذا العمل إتاحته التواصل مع الثقافة الفنلندية عن قرب والتي كانت تلفت انتباهي منذ عرفت أن فنلندا تتربع على عرش أفضل نظام تعليمي في العالم أوائل العقد الماضي ولاتزال، كما أن نسبة الأمية فيها 0%، وقد ازداد اهتمامي بالتعرف عليها وبالغوص فيها أكثر بعد هذه التجربة الفريدة التي أضافت ولعاً إلى ولعي بالتعلم وأهل تطويره وحب كل ما يمت له بأي صلة، إليكم هنا بعض الأمور اللطيفة التي تعلمتها منهم وعنهم
- الفنلنديون من قبائل الفايكينغ وصولا إلى اليوم
تقول الأساطير أن نسبة كبيرة من الفنلنديين تنحدر من قبائل صيد بحري متوحشة تسمى الفايكينغ (قد يكون أحد معاني فايكينغ هو القراصنة)، وقد أرخ عنهم في القرن العاشر الرحالة العربي ابن فضلان واصفا من مغامراته معهم ما يبعث على العجب وقد سماهم أكلة الموتى والسباع حين اختطفوه أسيرا وعاش بينهم قرابة الثلاث سنين، ويمكن الاستمتاع بما بقي من المخطوطات التي جمعها أحمد عبدالسلام في كتابه مغامرات سفير عربي.
إلا أنك لا ترى في الفنلندي اليوم أي أثر لهذا التوحش بل يكاد يكون في عريكته الحديثة كائنا لطيفا متواضعا ولينا ويخجل جدا حين يظن أنه قد أساء دون قصد فيعتذر إليك بمزحة: عذرا لظهور الفايكينغ الذي بداخلي. معظم من تعاملت معهم على الأقل لطيفون ومتواضعون ومائلون للتحبب إليك كقادم إليهم من كوكب آخر، ولكنهم لا يعبرون عن هذا بكثير من الكلام وإنما تراه بلفتات أخرى جميلة.
وجدت من احتفائهم بأهل الثقافات والمعارف الأخرى ما لا يشبه أنفة بقية شعوب أوروبا تجاهنا كملونين وقد كان يعيد الرطوبة لتربة فؤادي هذا الاحتفاء منهم بعد الجفاف الذي أورثنيه العيش بحضن الثقافة الجرمانية. في كل رحلة سافرت فيها إلى الفرع الرئيسي للشركة في العاصمة هلسنكي تعرفت على أصحاب جدد، وأطعمة ورقصات وحكايا ومعالم جديدة، كنت أجد من الثقافة الفنلندية على هدوئها حفاوةً لم أعهدها في غالب تعاملاتي هنا، ناهيك عن حقد أغلب الفرنسيين غير المبرر حين تزورهم، إلا أنها تشبه إلى حد بعيد حفاوة الطليان مع فارق الضجيج الكرنفالي المهول عند الطليان.
سمة أخرى غير التواضع قد تحتاج إلى مقال كامل تلفتك بهم، ولا أعرف كيف ألبسها لفظة واحدة: في التعاملات العامة تجد معظم الرجال والنساء فيهم قريبين جدا من الحياد الجنساني بشكل عام وبعيدين عن الأدوار المجتمعية التاريخية للذكورة والأنوثة، وهذا أمر تقريبا لا أتذكر أنني شهدته في أي شعب آخر من شعوب العالم.
- صمت العواطف في النطاق العام
من ألطف الأمور التي قد يلاحظها القادم من بلاد نارية في أساليب تعبيرها عن المشاعر كالمنطقة العربية أن الفنلندي يميل للصمت في التعبير – تقريبا – عن كل شيء. حين يفوز بشيء عظيم تكون ابتسامته عظيمة، وحين يتوفى أحد أحبته يكون حزنه عظيما لكنك قد لا تسمع منه كلمة، أو قد تسمع منه كلمة واحدة إذا كان ثرثارا مثلي.
وقد يتفاجأ الذي تعود على ارتفاع الصوت وشدته في معظم المناسبات في ثقافته أن يكون في حجرة يملؤها مئة شخص فيندهش بإمكانية أن يتحدث شخص واحد ويكون مسموعا وبأريحية بينهم لأن البقية تنصت تماما. لا أمزح أبدا، نعم تماما تماما!
الأمر يمتد إلى أبعد من الصوت، فالمساحة الشخصية للفنلنديين كبيرة وقد يزعج أحدهم أن يقترب كما يقترب بقية الأوروبيين إلى أقل من 30 سم ومن هذا موقف لطيف حدث مرة معنا في مكاتبنا في برلين حيث كان الجمع مايقرب من ثلاثين شخص ونريد أن نحتفي بإنجاز فريقنا معا، وقد تحلقنا كدائرة وبين واحدنا والآخر قرابة العشرين سم، فقال أحد أعضاء الفريق من الألمان على عادة الفرق هنا في موقف شبيه أن توضع الأيدي على أكتاف بعض: ما رأيكم أن نقوم بعناق جماعي احتفالا؟ ليجيبه أحد الفنلنديين ضاحكا: أرجوك لا، فبالنسبة لنا كفنلنديين، نحن الآن في عناق قوي أساسا وأيده كل فنلندي في الفريق وكانوا يشكلون ثلث الحاضرين، ضحكنا وكانت بالنسبة لي أول مرة أدرك فيها هذه الفروق بين شعوب أوروبا وصرت أستخدمها أحيانا كمزحة لتجنب الاقتراب بعد ذلك.
هذه المساحة الشخصية تعكسها الأبنية والطابع العام للعمارة في فنلندا، فالبنية التحتية للمدن تبدو صديقة لحجم الإنسان في تصاميمها مريحة للمشي مسافات طويلة فيها و في نفس الوقت تمتد أبنية الخدمات العامة على هيئة مساحات تسمح للمجتمع بالتواصل والتناغم دون احتدام، وقد كان هذا حاضرا في أكثر من مبنى أهمها وأشدها لفتا لانتباهي كان المكتبة العامة في هلسنكي (في الصورة أعلاه جانب القراء الصغار في مكتبة هلسنكي) والتي تعد تحفة فنية في تصميمها الداعم للابتكار الاجتماعي وإعادة لتعريف دور المكتبة في حياة المجتمع.
- مبدأ السيسو العجيب sisu
هل سمعت عن كلمة في أي لغة أخرى تجمع بين الشجاعة والعزم والأمل والطمأنينة والإصرار والمرونة معاَ؟
هذا هو مبدأ السيسو الفنلندي العجيب والذي يمكن اعتباره هوية وطنية يذكر واحدهم به الآخر حين يستدع الأمر ذلك. ولكنك إن طلبت تعريفا له من شخص فنلندي ستسمع شيئا من قبيل: جميعنا يدرك جزئيا ما هو مبدأ السيسو، وجميعنا يحاول بلوغ ذلك، لكن وضعه في إطار تعريفي يسلب المبدأ كثيرا من معانيه ونحن بشكل عام لا نحب تعريفه ولا نرى له مدى أو سقفا يمكن بلوغه.
يقول المثل الفنلندي
الناس الأقوياء كالأشجار، إلا أن الأشجار قد تنكسر، بينما المرء المتحلي بالسيسو يلين فلا ينكسر بل يضع نفسه مرة بعد أخرى على مساره للاستمرار نحو غايته
- البساطة الممتنعة للغة
قد تكون من أكثر الأمور فتنة في فنلندا هي بساطة اللغة التي يقال أنها إحدى أبسط لغات العالم وأحدثها وأقلها عدد كلمات – على ذمة من قابلت منهم فلست خبيرة في اللغات ولم أنقح المعلومة قبل إحضارها لكم – و لكن ربما أن هذه السمة تنعكس على الثقافة بشكل عام فتراها حاضرة في تصاميم بيوتهم الهادئة وأثاثهم الاسكندنافي الجميل ببساطته و أطعمتهم التي تغلب عليها المكونات البحرية البسيطة جدا، وفي قراءة العادات والتصاميم المجتمعية مصداقُ لقول اللغويين أن اللغة عادة ما تكون مرآة صادقة لثقافات الشعوب.
- حياة العزلة
تخيل مساحة تقارب مساحة ألمانيا الشاسعة، وتعدادا سكانيا لا يزيد على 6 مليون نسمة متوزعين في أكواخهم الخشبية على مئات الجزر المترامية بين البحيرات؟ هذه هي فنلندا. كان قد عبر عن هذه السمة فيهم الكاتب ريتشارد في كتابه الفنلندي وثقافة الذئب المنفرد. ومن معالم هذه السمة أن الفنلندي يحمي بيئته المنعزلة بشدة ويحافظ عليها من المتطفلين، فلا تجد كثيرا من الأصدقاء الفنلنديين مثلا على فيس بوك، ولن تدخل بيت أحد حتى تكون صديقه بحق، ولن يرد عليك في إجازة نهاية الأسبوع إلا إن اعتبرك من أصدقائه الذين يستحقون الدخول لعوالمه.
ومن معالم طغيان سمة العزلة أيضا أن الفنلنديين يبتسمون في المحافل والمؤتمرات حينما يتحدث الناس عن الطقس والأحداث السطحية، فهم لا يأبهون للأحاديث القصيرة التي تملأ فراغاتٍ لا داعي لها، فهم شعب يرتاح تماما إلى الصمت إن لم يكن للحديث قيمة.
معلم ثالث تجده حاضرا في بيئات العمل بقوة وهو قدرة واحدهم على العزلة أثناء العمل لساعات طويلة دون أن تشعر أنه يجلس في المكتب المجاور لك، هدوء جميل يبعث على الإنتاجية وفي نفس الوقت صعب جدا ويحتاج الكثير من الدربة لشعوب أخرى وسأفرد العزلة وقيمتها الاقتصادية بمقال خاص قريبا.
أمران أخيران:
الأول أنه بخلاف الإحصاءات العالمية المتكررة التي تصنف فنلندا أسعد دولة في العالم فإنني لا أعتقد – على الأقل مما رأيت – أنهم شعب سعيد على الإطلاق، بل ربما يحسن أن نقول شعب يغلب عليه التصالح نوعا ما مع التعاسة ومع الطبيعة البشرية القاتمة، شعب يأخذ التجربة الإنسانية على أنها حتما تحتوي على كثير من القتامة، و معظم من عرفت منهم يعاني شيئا من الكآبة لكنه لا يعتقد أن هذا شيء سيء بالضرورة،
والأمر الثاني أنه رغم اعتبارهم تجربة الساونا الحارقة وإتباعها بإلقاء نفسك في بحيرة متجمدة إحدى أهم تجارب الحياة التي يعشقها الفنلنديين ويفتخرون بها، إلا أنها سببت لي نوبة من الخفقان في قلبي لم أتحملها ولم أحبها ولكن أحببت الكوخ الذي أقمنا فيه على ضفاف بحيرة صورتها لكم أعلاه.
هناك الكثير من التفاصيل الأخرى بجوانبها الحلوة والغريبة معا، لكن الانطباعات الخمس الأقوى والتي تركت فيّ أثرا لا بأس به كانت هي التي شملها المقال هنا، ماذا عنكم؟ ما هي تجاربكم و انطباعاتكم؟
تعقيبآ على فكرة الحياد الجنساني..اللغة الفنلندية لا تحوي ضمائر مذكرة أو مؤنثة و إنما ضمائر تصلح للطرفين من باب المساواة بين الذكر والانثى.
مقال جميل..سلمت يداك
مقال رائع غني بالمعلومات القيمة …
مقال هادئ.. بانتظار الحديث عن العزلة