على رأس كل عام يكتب المتفائلون أهدافا متفائلة جدا، ثم تهوي الشهور على الهمم بمسؤوليات وملهيات فتذهب بجل تلك الأهداف، أو تنسينا إياها. لست وحدك في هذا، يمر واحدنا على الأقل بتجربة تسويف أو أكثر في حياته ، فيما يلي محاولة لترسيم بعض ما تعلمنا إياه علوم الإدراك حول هذا الأمر:

يميل العقل البشري – رغم معرفته بأهمية الحمية الغذائية الصحية – ليهجم على قطعة الحلوى فور مشاهدتها ، ويميل – رغم إدراكه خطر التدخين على صحته – لإخراج تلك السيجارة والاستمتاع بأثر النيكوتين بعد أن نوى أن تكون سيجارته السابقة هي الأخيرة، و يميل – رغم إدراكه أهمية التسليم على الوقت – لتأخير العمل على المشروع الهام حتى آخر لحظة، تستيقظ ناويا الذهاب إلى التمرين الرياضي لاستعادة اللياقة تقريباً كل يوم ثم بعد عودتك منهكا من العمل تقول ربما غداً أبدأ، معظم الطلاب ينوون فتح الكتاب بشدة قبل موعد الامتحانات لكنهم لا يفتحونه فعلياً إلا قبل الامتحانات بأسبوع، وهكذا ! أهداف رأس العام يضعها الواحد منا بكل جدية لتنفيذها و تذوب على الأغلب مع ثلج الشتاء مع أول فرصة للذوبان في زخم الحياة.

لماذا يحدث هذا؟ و كيف نتفوق على آفة التسويف هذه؟

يعتبر التسويف من أعند العادات الدماغية وأصعبها، لماذا؟ قد يكون السبب أن شبكة الأعصاب المعنية بالتسويف هي شبكة الإدمان ذاتها! هذه الشبكة تسمى شبكة المكافآت في الدماغ (reward system)، حين يختل عمل هذه الشبكة يحدث الإدمان، وحين تعمل في أفضل حالاتها يحدث الانضباط الذي نراه هائلا لدى الناجحين في الوصول لغاياتهم؛ فكيف يتحقق الانضباط لها ؟ يستلزم العمل على هذا الجانب البدائي من أدمغتنا بعض الجهد الصعب و غير المحبب منا ، رغم وعينا التام باهميته.

كيف هي الحكاية من الداخل ؟ تبدأ الحكاية بوضعك هدفا في رأسك يعني لك الكثير في قيمته، مثلا: أريد أن أخفف وزني عشرة كيلوات هذا العام، و تكون قيمة هذا الهدف عالية جدا في رأسك لكنه يحتاج وقتا للعمل عليه ولا يمكن تحقيقه لحظيا ولهذا يسمي العلماء هذا النوع من الأهداف “المكافآت المتأخرة” (delayed gratification) ، مع الوقت يحدث ما يسميه علماء الدماغ “التناقص الوقتي لقيمة المكافأة المتأخرة” أي كل يوم يطرح دماغك جزءا من القيمة الأولية التي وضعها للمكافأة المتأخرة، ثم يحدث في وقت ما من العام أن توضع أمامك كيكة تحبها، الآن قيمة أكل الكيكة اللذيذة يسميها العلماء “المكافأة اللحظية” (instant gratification) لأن لذتها آنية جدا، فيحدث في عقلك أن تتسابق قيمتين على استحواذ انتباهك: قيمة المكافأة المتأخرة التي تتناقص كل يوم، و قيمة كبيرة جدا أشعلت شرارة من النواقل العصبية آنياً للكيكة، فمن الفائز؟ على الأغلب ستفوز قيمة الكيكة اللحظية في الدماغ غير المدرب لأن قيمة المكافأة المتأخرة تناقص كما ذكرنا و أمام القيمة المعجلة للمكافأة اللحظية ستكون أقل ! بعد أكل الكيكة بلحظات، وغياب قيمتها تماما ، يبدأ تأنيب الضمير بالعمل لأن القيمة التي بقيت الآن هي قيمة المكافأة المتأخرة والتي يدرك الدماغ بعد فوات الأوان أنه أخر تحقيقها أكثر بأكل تلك الكيكة.

 لكن هذا الحساب العقلي  للقيمتين هل يمكن قلبه و تعديله ليكون في اتجاه المصالح المؤجلة؟ معظم الأمور ذات القيمة في الحياة هي الأمور التي تتطلب وقتا وجهدا طويلين!

إذا كان التسويف سببه الرئيسي أن الوقت الذي يفصل غرس البذور عن حصد الثمار يجعل عقل المسوف ينسى لذة الثمرة المؤجلة و وينقص من قيمتها مع مرور الوقت، وبالتالي يفقدها الطاقة العقلية التي يود العقل تخصيصها للبدء ببذل جهد وتحقيق أي إنجاز نحوها ، فإدارة الذات وتدريبها يحتاج لمبادئ بسيطة في ظاهرها لكنها مهمة جدا لخداع العقل البدائي والالتفاف على تفضيله للمكافأة المعجلة وستذكر المقالة هنا مبدئين

  • إذا سألت 80% من الناس عن غاياتها ستجد قائمة هائلة من حب الخير و حمل قضايا إنسانية عظيمة و غايات على المستوى الشخصي والمجتمعي والإنساني لا تقل أهمية عن غايات الناجحين والعظماء !
    لكن الفرق بين الفئة الأولى والفئة الثانية أن الفئة الأولى ربما أدركت مبكراً أن تقسيم الغايات الكبيرة لأهداف أصغر و تجزيء الأهداف الأصغر لمهام يومية يمكن تحقيق الواحدة منها في ساعة او ساعتين لا أكثر هو مفتاح جوهري (لاحظ تقسيم المكافأة المؤجلة هنا لمكافآت أصغر معجلة في عقلك)، وقد تضحك وأضحك معك من أننا جميعاً نعرف المقولة التي بليت لكثرة تداولها ولكنها صحيحة مئة بالمئة : “مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة” ، فما الفرق الذي ستشكله هذه الآلية في عقولنا ؟ العقل يخاف إجمالاً من الأعباء الجسام ، ويراها أشباحاً من جبال مهولة فيفضل الاختباء منها خلف شاشة التلفاز أو أن يندس منها في السرير رغم أنه هو من شكلها ! وحين تأتيه مكافآت معجلة لا يستطيع مقاومة الرغبة بها!
    حين نجزئ له الأمر العظيم ، فإن كل إنجاز صغير يحفز الدماغ لإفراز مواد تشعر صاحبها بنشوة هذا الإنجاز، وتعطيه دافعاً قوياً جداً لينجز المهمة الصغيرة التالية ومن ثم الثالثة و في جعبته بعض الطاقة التي شحنها من الإنجاز السابق وهكذا تتدفق الطاقة ما دام الإنجاز مستمراً، إذن الأمر الأول هو “مبدأ شحن الجهاز” ، وكما ان أجهزتنا الالكترونية كلها بحاجة للبطارية، فبطارية الإنجاز أيضاً بحاجة للشحن المستمر، قليل منه كافٍ يومياً ليستمر بالعمل دون أن تجف طاقته بالكامل.
  • وجد الباحثون أن هناك قيمة أخرى لها أثر أكبر من قيمة المكافأة، وهي قيمة الفقد (loss aversion)، أي أنك حين تقول لعقلك سأتدرب على الرياضة كي أصبح أجمل هذا العام ، تكون القيمة العقلية التي يخصصها الدماغ لهذا الهدف أقل من لو قلت له: أريد أن أتدرب على الرياضة على لا أصاب بأمراض القلب، فقد الصحة سيأخذ قيمة أعلى، وعليه فحين تضع الأهداف أو الأولويات ذكر نفسك ما الذي لا تريده في حياتك ببقائك في مكانك وما الضرر أو الفقد الحادث إن لم تقم بالجهد، ذكر نفسك به حين تشاهد مكافأة معجلة ، أي حين تشاهد الكيكة أعلاه، قبل أن تمد يدك سيقوم العقل بحسبة بسيطة للمكافأتين وتربح المكافأة المؤجلة إذا كانت أعلى ، فاجعلها أعلى وتذكر المبدأ الثاني “لا أريد أن أخسر”

ما الذي يجعل غالبية الموظفين ينجز المهام المطلوبة منه ويسلمها لإدارته مهما كانت ثقيلة وجافة ومملة وصعبة؟ ليس لأنها أهم من أهدافنا الشخصية على الإطلاق، بل لأن الأنظمة الإدارية أدركت منذ زمن بعيد أن وضع (deadlines) محددات وقتية و مواعيد تسليم أمر في غاية الأهمية لاستمرارية الإنجاز ولأن الموظف يخاف من فقده عمله إن قصر (قيمة الفقد تعمل هنا). المبدئين يعملان معا لكأنها خدعة عقلية تزيد من قيمة المكافأة المؤجلة وتزيد من قيمتها عند الشخص أكثر لأنها مرتبطة بقيمة فقد ، و لهذا فعلى الواحد منا إن حرص على غاية ما في حياته أن يقسمها لأهداف أصغر و مهام يضع لها مواعيد إنجاز يومية (صارت المكافآت الصغيرة هنا مكافآت معجلة بهذه الطريقة) ويزيد من قيمة فقدها في دماغه ، حين يعمل هذان المبدآن معا يستمر العقل بالتحفز والاستعداد والقدرة على التركيز على الغاية أكثر من الالتفات للملهيات والمكافآت المعجلة ومشتتات الانتباه المتفرقة ، قس هذا على كل شيء، شهوة الطعام ، الجنس، الراحة، النجاحات في الحياة الشخصية والعامة وغيرها.

أعرف صديقا كاتبا ينتج في العام تقريباً كتابين وحين سألته كيف ؟ قال : حينما أريد أن أكتب يومياً فإنني أبتعد عن هاتفي وأغلق أي وسيلة تصلني بشبكة الانترنت حتى أفرغ من حصة الكتابة اليومية ثم أكافئ نفسي بعض الوقت!
وقد سمعت منذ فترة عن طالبة في الدكتوراه أتمت كتابة أطروحتها في ثلاث شهور فقط بعد تسويف سنتين! وذلك لأنها قسمت مهمتها لثلاثة أقسام و وضعت لنفسها مواعيد لا تحيد عنها و كانت تحجز نفسها في بيئة تبعدها عن الملهيات حتى تفرغ تماما ثم تكافئ نفسها على الإنجاز يوما بيوم حتى أنهت الأطروحة.

ومثال آخر لصديق كان مدخنا شرهاً، ترك التدخين بأسلوب جميل : وضع لنفسه جرة شفافة ، و في كل مرة يشعر فيها بالحاجة لأخذ سيجارة ويسحبها من العلبة هو يقول لنفسه هذه آخر واحدة : كان يضعها في تلك الجرة و على الجرة كتب : انتصاراتي اليومية ، بعد شهر وجد أنه انتصر على نفسه الراغبة في التسويف ستة وسبعين مرة !
أغلق حينها الجرة و تركها مكانها و رسم وجها مبتسما ، قال لي مرة: أترين هذه الجرة؟ هذه بالنسبة لي كأس نجاح وإنجاز يعطيني دفعة من الطاقة الهائلة كل مرة أحاول فيها البدء بإنجاز جديد حيث تذكرني بأني قادر على ذلك بعد مضي خمسة أعوام على إقلاعي عن التدخين.

أمثلة أخرى كثيرة يمكن الاطلاع عليها من حياة الكثيرين من المشاهير والبحث عن كيف حققوا ما حققوه، و في الفيديو التالي التجربة الشهيرة للعالم دانيال غولمان مع الأطفال التي توضح هذا الأمر باختبار لطيف ومضحك للأطفال، حيث ترينا التجربة كيف نميل لنيل المكافأة المعجلة  (الحلوى القليلة لكنها أمامنا على الصحن ) ونفضلها على المكافأة المؤجلة (التي تعدنا بها السيدة إن صبرنا ولم نأكل الحلوى التي أمامنا ) وعلى الرغم أن المكافأة المؤجلة أكبر إلا أنها تتطلب منا بعض الجهد والصبر وإدارة الذات، وبعض الأطفال لم يستطع ضبط نفسه فأكل الحلوى التي أمامه ، والبعض الآخر ممن تمتعوا بإدارة عالية للذات نالوا المكافأة الأكبر،

وبعد سنين ، وباستمرار الدراسة ، وجد القائمون على هذه البحوث أن الأطفال التي مالت لضبط النفس وتمتعت بإدارة أعلى للذات كانت أكثر نجاحاً وتحقيقاً للإنجازات في حياتها.

الحكايات مع التسويف كثيرة، والغايات الكبيرة التي تنتظر خلف أعتاب التسويف أكثر ، ولا زال أمام المتفائلين شهرين لإنجازات هذا العام التي كانت مسوفة ، قد تكون هذه المبادئ الآن عونا لاقتحامها و إنجازها والوصول لرأس العام مع إنجازات طيبة.


** الرسومات أعلاه من اليمين لليسار للفنانة ليم هينغ سويي LIM HENG SWEE من ماليزيا وهي فنانة للرسومات التي تجسد أفكارا مبسطة بأسلوب الرسم العبثي أو الخربشات القلمية

للمزيد من أعمالها ولشراء بعض ما تنتجه أيضا : https://www.ilovedoodle.com/

تحديث في 2022 | يتقاطع هذا المقال مع مقال كتبه محمود أبو عادي في مدونات الجزيرة حول التغلب على العادات السيئة، أو بمعنى آخر كسر الرابط بين جهاز المكافآت في الدماغ وبين عادة ما.