الكتب كالأصدقاء، لا بد أن يكونوا قليلين و منتقين بعناية

ساموئيل جونسون

في اللقاءات الأولى بين الناس، قد يميل البعض للتعارف مع الناس عبر مرجعياتهم المحلية أو الوطنية: من أي عائلة أنت ؟ أي مدينة؟ أي بلد ؟ أي اللغات تتحدث وهكذا، بينما يتعارف آخرون عبر هواياتهم واهتماماتهم: هل تلعب القدم ؟ هل تعزف البيانو ؟ ترسم ؟ ربما نلتقي ونحن نشاهد الأوبرا معا ، وهكذا. بينما القراء فعادة ما تشعل حماستهم كمية الكتب التي تجمعهم بالآخرين؛ على سبيل أن الاهتمامات كلما تقاربت مع الآخر فإن كمية المعارف الإنسانية التي تسكن الرفوف تتقارب أيضا، وربما أول سؤال يطرحونه عليك : ماذا قرأت مؤخراً؟

 كانت العرب تقول: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، وقالت أيضا: من خالط العطار أصاب من طيبه؛ وبالمثل أزعم أن ما يختاره المرء من كتب في كل مرحلة من حياته وكيف يتفاعل مع هذه الكتب يخبر عنه بشكل دقيق، ويؤثر عليه وعلى عالمه أيضا ولهذا فلا بد أن يحسن انتقاء ما يختار من بين ملايين الملايين من الكتب المتاحة؛ حيث يصل إلى مكتبة كامبريدج وحدها كل يوم 500 عنوان أكاديمي جديد ليتم نشره!

قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت

أمان عيد

فما الذي يميز القراء؟

في الثمانينيات من القرن الماضي قام العالمان هارلب و دولن بإجراء تجربة لمعرفة الفروق بين الأطفال الذين تعلموا القراءة ومارسوها وبين غيرهم من الأطفال الذين لم يمارسوا القراءة بعد،  أهم ما خرج به البحث هو أن القدرة الإدراكية على تركيب معانٍ جديدة من معان سابقة كانت سمة تميز بها الأطفال الذين يقرؤون دون غيرهم. التجارب العلمية التي تبحث في قدرتنا على القراءة دون بقية المخلوقات تفتح للإنسان نافذة ليتذكر باستمرار أنه “كائن قارئ” وإلى أهمية استثمار وتطوير هذه المهارة وأخذها بجدية أكثر ، فالقراءة أكثر من مجرد هواية، و من لم يكن له نصيب من الكتب يلتهمها بشكل يومي كما يلتهم طعامه ، فعقله في مجاعة معرفية وحياته لابد مصيبها الملل والرتابة. وحين تلتقي من يقرأ لا يمكن إلا أن ترى في حضوره كيف تهبه القراءة أجنحة!

حول قراءة هذا العالم كتابا بعد آخر

في العام 2011 نظرت  آن مورغان إلى مكتبتها فوجدتها تنحصر في رؤية أنغلوفونية للعالم، معظم كتبها – وهي قارئة نهمة – تدور في فلك الأدب البريطاني والأمريكي، فبدأت تحديا جديرا بالاحترام مع نفسها وهو أن تقرأ كتابا من كل بلد من بلاد العالم في عام واحد، وقد نشرت كتابها الذي يتحدث عن تلك التجربة المثيرة بكل تحدياتها، من تحديد أي كتاب تنتقي ليمثل أدب تلك البلد، لانتقاء أي المناطق تختار وهل ال196 دولة التي حددتها لنا الأمم المتحدة هي  التي ستنحصر القراءة في حدودها أم ماذا؟ التجربة التي خاضتها مورغان وتبعها فيها آخرون كثر تعود إلينا بسؤال: ما الشرفة التي تطل منها مكتبتك على العالم؟

أو ربما أن مكتبتك لا تطل على العالم ، ولا تريد ! إنما تنحصر في محاور محدودة و أنت تعيد قراءة الكتب ذاتها مذ ورثت مكتبة عن  والديك ؟ هذا أيضا نوع آخر من أنواع القراءة، فأحيانا إعادة الاستمتاع بكتاب قرأه المرء سابقا ليفهمه على مستوى أعمق يكون خيارا أفضل من الانتقال لاكتشاف غيره من المعارف.

فكيف تختار الكتاب التالي والموضوع التالي؟

يقول فان دورين في كتابه الشهير “كيف تقرأ كتابا” والذي أصبح مرجعا هاما في كثير من المناهج الجامعية: كل كتاب لا بد أن يُقرأ أربع مرات على الأقل حتى يقال لقارئه أنه قرأه، و من الكتب ما لا يمكن فهمه إلا حينما يقرأ على مستويات عديدة ومن هذه الكتب : القرآن والكوميديا الإلهية لدانتي و كتب شكسبير.

من أهم ما قام به فان دورين في كتابه هو تلخيص أنواع المقروء إلى التالي:

  1. المقروء للمتعة
  2.  : المقروء للمعرفة
    1. للمعلومات العامة
    2. للفهم الأعمق

ثم قسم أنواع التعلم إلى:

  • أ. ما يُتعلم بالاكتشاف
  • ب. ما يُتعلم بالتلقين
    • بتلقين مباشر  من معلم ( بالاستماع )
    • تلقين غير مباشر (بالمقروء)

ويقول فان دورين إننا يمكننا اعتبار القراءة من النوع الثاني أعلاه (أي لأهداف المعرفة) في غالبها نوعا من أنواع التعلم بالتلقين غير   المباشر ، ولكن ولكي تكون كذلك، قام فان دورين بوضع خطوة أخرى وهي تصنيف المكتوب من الكتب إلى :

  • كتب تأتي بمعرفة جديدة
  • كتب تعيد تدوير معارف سابقة بطرق أخرى إما بتبسيطها أو ترجمتها أو نقلها من كتابة مفاهيمية لكتابة فنية وهكذا

وأخيرا يتوصل فان دورين إلى أن معظم الكتب التي تنتمي إلى الفئة الأولى ( أي الكتب التي تأتي بمعارف جديدة) هي غالبا ما تسد حاجات القراءة في النوع أعلاه (للمعرفة لأغراض الفهم العميق ) وبالتالي، فهي القراءة التي تطور صاحبها وتنقله من منهجية في التفكير إلى أخرى وهي الكتب التي تستحق أن تقرأ أكثر من غيرها.

هل أعيد قراءة كتاب سابق؟ أم أقرأ كتابا جديدا؟

مشكلة استكشاف المزيد مقابل استثمار الذي تم استكشافه حتى الآن هي مشكلة يواجهها جيلنا اليوم في خضم التدفق المعرفي الهائل، فلا يمكن لأحدنا أن يقرأ كل الكتب التي أنتجتها الإنسانية، ولا أن يستمع لكل الأغنيات التي توفرها سبوتيفاي و ساوند كلاود و غيرها من  المكتبات المفتوحة اليوم، ولا أن يشاهد كل الأفلام الرائعة على نت فليكس و غيرها ، وهو التحدي الذي يقول عنه علماء تعلم الآلة (machine learning) أنه أحد أكبر التحديات التي يواجهها جيل الانترنت (explore – exploit problem)،

 ولحل هذه المشكلة في المساحة بين إعادة اكتشاف ما اكتشفناه سابقا على مستوى أعمق أو اكتشاف الجديد قام جون غيتينز (John Gittins) بتصميم خوارزمية لها تطبيقات في هندسة المعلومات ونسخ عديدة بعضها أفضل من بعض لكننا هنا نبحث عن مقاربة لها في حياتنا كبشر وكيف يمكن لنا ان نستفيد منها، وبالتالي فإن أهم ما يعرض لي الآن هو أن يحدد المرء أولا الوقت المتاح له لاستكشاف مفهوم ما عبر كتاب جديد و تحديد أولوية هذا المفهوم لحياته ولمهنته ولأسرته للتعمق فيه هما مفتاحا الاستكشاف والاستثمار، وبالتالي فتوقفك عن الاستكشاف وإعادة استثمار ما تم اكتشافه مسبقا قد يكون ذكاءً يفرضه عليك الموقف إن وجدت نفسك تتساءل هل أشتري هذا  الكتاب الجديد؟ ووجدت أن المعادلة من الفائدة التي سيجنيها عليك مقابل استثمارك المادي والوقتي فيه ليس مربحا.

اللوحة في الصورة أعلاه أنتقيتها لكم على عادتي من عمل فني قام به الفنان ماتي كرين وسماه خلية كتب ، في مؤسسة جولبنكيان البرتغالية ، و هو مستوحى من الذاكرة التراكمية للمعرفة في الأماكن والعقول، لمن أراد الاستزادة حول العمل الفني : هنا