تويفلز بيرغ ومعناها بالعربية جبل إبليس تعد أعلى نقطة ارتفاعا ( 120 متر ) فوق سطح البحر في برلين ومحيطها، وتقع تحديداً بقلب الغابة الخضراء غرب برلين وبسفح هذه التلة ( أو الجبل ) بحيرة تحمل نفس الاسم.
فما المثير في هذا الجبل ؟
هذا الجبل الذي يبدو طبيعيا ١٠٠% و مليئا بالحياة البرية و الأشجار السامقة و الأعشاب التي يبدو بعضها صحراويا وليس اعتياديا كما يظهر في الوهلة الأولى ! و إنما هو جبل صناعي مكون من رفات المباني والمقصوفات التي خلفتها الحرب العالمية الثانية. لم يكن مسموحا لسكان برلين الغربية بالتحرك في الأنحاء إثر الحرب، ومن المعروف أن برلين الغربية كانت محاطة بالمناطق الشرقية ومسوّرة بجدار برلين الذي يفصلها عن برلين الشرقية وعن محيطها من الضواحي التي تقع جميعها في شرق ألمانيا أيضاً حين كانت برلين الغربية معزولة كجزيرة غربية في قلب الشرق.
لم تكن أسعار النفط بعد الحرب مباشرةً لتسمح بتكاليف نقل المخلفات التي أحدثها القصف الذي استمر على المدينة لأعوام، فإن لم يكن ممكناً على ما يبدو نقل الرفات من داخل المدينة بعيدا عنها إلى مكب بعيد و لم يكن من الممكن أيضاً ترك النفايات لتعرقل استمرارية الحياة، فما العمل ؟
كان على سكان المدينة ردم الرفات ضمن حدود برلين الغربية وقتها ! فبدأ السكان بفكرة جميلة وهي أن يجمعوا هذا الرفات كله في مكان واحد وسط الغابة غرب برلين على ضفاف مصب نهر الشبري والمسمى ببحيرات هافل ويصنعوا منه هذا الجبل ، المثير أكثر في الأمر أن الجبل يربض اليوم فوق أكاديمية هتلر العسكرية لتدريب قوات النازية ، هذه الأكاديمية التي لم تستطع جيوش التحالف أثناء الحرب من تفجير مبانيها بالقنابل وكأن ردم الرفات فوقها و دفنها بدا لمن قام به كأفضل الحلول المتاحة للتخلص من الأكاديمية حين استحال الهد.
ليس جبلا فقط !
أمر آخر شديد الإثارة وهو أن الجبل البشري الصنع هذا كان في ال1963 وأثناء الحرب الباردة بعد أن وضعت الحرب أوزارها بقرابة ال١٠ سنين يقع ضمن المنطقة التابعة للقوات الأمريكية البريطانية أثناء فترة التقسيم ، وبني على قمته أحد أكبر مراكز التنصت بأوروبا ( بحسب ما ذكره المشرف السياحي للمكان) و حينما سقط الجدار في 1989 وانسحبت القوات الأمريكية من المنطقة استهدف الناس هذا المركز ليصعدوا إليه و يدمروه تعبيراً عن فرحهم بانسحاب قوى العنف وبقايا الجيوش وآثارهم ، هذا هو اليوم و منذ أن تم إخلاؤه (يبدو في الصورة كقبة بيضاء خلفنا ) يعتبر وجهة للترويح والسياحة بأعلى قمة الجبل ، يحتفل الناس فيه ، يسكرون ، يرسمون الغرافيتي للتعبير عن إطلاق حرياتهم وفي رسوم الغرافيتي على جدرانه الكثير من الذاكرة الموثقة لما مر على المكان. يخرجون عن المألوف ترميزا لتحررهم من آثار الامبريالية، فيما يرى البعض الآخر أن التحرر الشكلي هذا حتى اليوم يحتاج للمزيد من التحرر.
ضمن المنطقة المحددة بأسلاك شائكة اليوم وجدنا مناحل لجمع العسل ، و مزرعة صغيرة و كثير من الحطام لسيارات و خزائن و حديد لم نعرف مصدره ، و وجدنا من يعيش هناك ببيت في الشجرة متخذا نمط الحياة البوهيمية (الغجرية) بعيدا عن المدينة و مدنيّتها أسلوبا له، و يمكن مشاهدة المدينة بكاملها من قبة المراقبة.
الرحلة إلى تويفلز بيرغ مغامرة تنموية استكشافية من الطراز الرفيع ، استكشاف ما يتحدث به الحجر و الشجر ، ومحاولات تبوء بكثير من الفشل لمعرفة المزيد عن ذاكرة المكان ، من المبادر الذي أشرقت برأسه بالفكرة ؟ ومن المتطوعون المجهولون الذين راقت لهم فكرة تحويل أذى العنف لمتعة سياحية تشرف على المدينة بكل سلام وجمال فتكبدوا نقل الرفات حتى ارتفع لهذا المستوى ؟ ترى هل زرعوا فوقه أم أن هذا الشجر اختار أن ينبت ليشدّ على أيديهم بهذه البادرة حينما أمطرت عليها السماء ؟ لا نعرف عن المكان اليوم سوى أننا نرسل تحية لن تصل لمن شارك بصنعه ، يأخذك المكان برمته بحالة من الدهشة و التساؤلات و العظمة والرمزية اللامتناهية.
ما الأذى الذي تضيق به في محيطك اليوم ؟ و كيف له أن يتحول إلى منصة للجمال يرتفع بمن يمر بعدك ويتركه في دهشة و يحقنه بجرعة من الإلهام والعزيمة ؟ تويفلز بيرغ قمة من قمم الجمال التي تترك زائرها مصحوبا بتلك النسمة التي استنشقها هناك !
مغامرة و صورة و سؤال – 2


