وما الذي يخسره العالم من الصناديق المغلقة للحقول العلمية والتجريبية


إن لم تكن شاعراً فذّاً؛ فلا تنشر شعرك
وإن لم تكن إعلامياً متمرساً فلا تشارك أفلامك
وإن كنت أديباً وعالماً في نفس الوقت فأخف أدبك كي لا يقلل الأدب من مكانتك العلمية
وإن لم تكن متخصصاً في مجالٍ ما فلا تفتح فيه فمك.

هل هذه محاكمات عادلة؟ ومتى نقع في هذا النوع من المحاكمات؟

قبل عدة سنوات لاحظتُ كتاباً لمفكرٍ مجالاتُه تراوِح بين اللغة وعلوم الدين، وحينما قرأت الكتاب وجدتُه ترجمةً عن كتابٍ نشره عالمُ نفسٍ غربي، أضاف المفكر العربي إليه وعدّل وبدّل، وعنونه بعنوان مختلف تماماً، ثم نسَبه إلى نفسه. أذكر أن هذه الحادثة بقيت عالقةً بذهني فترةً طويلةً جدا وكنت كلما هممت بمراسلة المفكر بين حين وآخر لأعاتبه غيرتُ رأيي في اللحظات الأخيرة: ومن أنا حتى أحاسب مفكراً حول اختيار وصياغة أفكاره؟! وهل كنت لتراسله لو كنت مكاني؟

ومن هو الخبير على أية حال؟

حينما نجيد استخدام الأدوات في مجال ما ثم نرى شخصاً لا يستخدم في عمله الأدوات المتعارف عليها عند أهل هذا المجال، ورغم هذا ينشر ما لديه مقيّماً إياه بقيمة معرفية، آخذاً ما لديه على محمل الجد؛ فقد يُحدِث هذا شيئاً من الاستهجان لدى أهل الاختصاص، فهكذا يحب أهل كل مجال أن يروا عالمهم مرتباً مصنفاً وِفق نماذجهم المعرفية لينسجم مع الصور الداخلية لديهم فلا يفقد معناه.

وهكذا أيضاً يعتقد كلٌ منا في مجاله أنّ له قدم سبق؛ فحين يرى المفتي غيرَه يفتي في تخصصه قد يرتابه ذلك الارتباك الذي قد يكون مبَّرراً في جانب منه ومفهوماً أيضا، ولكنه في جوانبَ أخرى قد يجنح إلى التنفير وازدراء التفكير التجديدي في ذلك المجال.

وما المانع من وجود نحلات تلقح الزهور التي تقع عليها في طريقها ما دام أهل الاختصاص أدرى به؟

على الجانب الآخر من ضفة الحوار هناك نظرية تقول: وما المانع من وجود نحلات تلقح الزهور التي تقع عليها في طريقها ما دام أهل الاختصاص أدرى به؟ فما الذي يمنع أمان مثلاً من نشر تفاهاتها الشعرية وقراءاتها التربوية وتجربتها في التعامل مع الكتب وإن لم تكن أمان لا شاعرة ولا مربية ولا أمينة مكتبة؟ ويمكن للشاعر وللمربي ولأمين المكتبة نقاشها بأدواتهم.

وبما أنني من النوع الذي انتمى لكلا المعسكرين مراراً؛ فلبست قبعة المختص حينما اقترب الحديث من تيسير التعلم الجماعي ومرجعيته من علوم الأعصاب وعن تصميم برامج التعلم والتنظيم المؤسسي وبعض تفصيلات الأعمال التقنية مما أفهم، أما حينما تعلق الأمر بشيء آخر من علوم وفنون وصحة وقضايا في المجالات التي تمر حياتي فقد مارست – كما أي شخص آخر – دوري الإنساني ومسؤوليتي في فهم ما يقوله أهل الاختصاص أحياناً، ومشاركة تأملاتي العامة أحيانا ممزوجةً بنهم معرفي قد يزعج المختص، والنية أن شيئاً ما – ولو كان تافها – قد ينفع غيري؛ فلماذا أستبقيه في هاتفي أو في رأسي؟ وعلى أفضل تقدير قد يستفزُ عالماً أحترمه فيحاورني فأستزيد وأتعلم، أو يلقَحه أحدٌ من جانب آخر قريبٍ فنستكشف معاً متشابهاتِ العِلمين فنُفيد مجالَينا، بما أنني هكذا؛ فما المانع؟ مادمت أعيد النظر مراراً في أفكاري وفيما أنشر، فأمحو وأمحص وأكمل الحياة، تلميذا أبداً متعلماً، بسؤال يظل مفتوحا:

هل الأفضل أن يصمت الإنسان عما سوى اختصاصه؟
أم الأفضل ألا يكتم علماً مر به، فيلقح وهو يمضي في كل مجال آخر، مخاطراً بأن يفقد مصداقيته حتى في اختصاصه؟

تبدت لي ثلاث اتجاهات لهذا السؤال في الأعوام الماضيات قد تشكل معاً فكرة طيبة للتعامل مع هذه الحيرة كأرجوحة عابرة لهذه الطيوف

  1. الاتجاه الأول يعتقد أن كل اختصاص يمكنه أن يستفيد ويستلهم من الأفكار الطائشة في الوعي الجمعي بشكل يتم تجاوزه وإغفاله – وأحيانا الاستهزاء به – من قبل المختصين لكنه في الحقيقة يلهم أعمالا ومسارات جديدة.

    ومثال ذلك:

    أثناء دراستي في الماجستير حول ذاكرة التعلم، مرت بنا محاولة العالم ستيف راميريز فك أحد ألغاز تشوه الذاكرة في العقل البشري، حيث صمم وزملاءه تجربةً ألهمها فيلم أشعة الشمس الأبدية للعقل النظيف (eternal sunshine of a spotless mind) ، حيث غرس وزملاءَه ذاكرة معينةً في دماغ الفأر وصمموا نظامًاً لتنشيطها وإلغاء تنشيطها حسب الرغبة وقد تحدّث عن هذا في أكثر من منتدىً مبتسما: إن تجربتنا قد تذكر الناس بهذا الفيلم، وهناك سبب وجيه لذلك: حيث إن التجربة كانت فعلياً، وجزئياً، مستوحاة منه.

    قال راميريز في مقابلة أجريت معه حول الدراسة التي أجراها : “أشعر أن هوليوود مستودع لكل هذه الأفكار والأسئلة الرائعة ونحن نستلهم منها”.

    ولأننا نعيش في وقت يمكن فيه التقاط الأسئلة من شجرة الخيال العلمي وإنزالها في الواقع التجريبي فهذا من شأنه أن يثري المجالات أكثر.

    مثال آخر يحضرني أقتبسه من علوم الشريعة، يمثله تيار من المفكرين ذوي العقل الجميل أمثال د.هبة رءوف عزت، أو الدعاة المتصوفة مثل جودت سعيد، أو غيرهم من المتأملين وكتّاب الخواطر الإيمانية مثل د. أحمد خيري العمري ومصطفى محمود ممن لم يتأستذ في أصول الفقه أو أصول التفسير لكنه أنتج غراساً فكرياً واجتماعياً هاماً أفاد علماء الشريعة بفهم حاجات الناس التطبيقية وبتوسيع آفاق أسئلتهم وأدوات استنباطهم وربطها بغايات الدين الكبرى وضروراته. وأعتقد أنه ورغم الصرامة التي يتعرض لها هؤلاء من أهل الصنعة فإن من لطائف الفن – وأقل ما يقال عن بعض هذه الأعمال أنها فنون أدبية تأملية – أنه يمكن لكل منا قراءة الفن والتفاعل معه بحسب حالته الانفعالية، وأن العمل العظيم لابد أن يحرك الانفعال والسؤال وتتبدى قدرته على إيقاظ عائلة واحدة من المشاعر والأفكار عند من يتلقاه. وقد حركت هذه الأعمال السؤال والانفعال!

  2. الاتجاه الثاني يقترح ألا يخوض المرء في مجال ما؛ ما لم يتدرب جيدا على استخدام أدواته ويجاز بشهادة معتمدة فيه بعد، كي لا يجعل من نفسه أضحوكة لأهل الاختصاص ويضيع وقته فيما لا يفهم ثم لا يضيف للمعرفة البشرية شيئا يعتد به.

    وهذا المنهج التقليدي في التعلم بالتسلسل قد يأخذ وقتا طويلا في شحذ الأدوات قبل أن ينتج المرء بحوثا ذات قيمة في مجاله، ولكن العالَم من حولنا يتحرك بسرعة أكبر بكثير من سرعة الإنتاج العلمي الرصين مما قد ينتج لنا متلازمة الحجرات الصماء للعلوم قبل أن تتلاقح من بعضها البعض (echo champers)، والحجرات الصماء مشكلتها الرئيسة أن سكانها لا يسمعون شيئاً سوى الضجيج الناتج عن اختلاط صدى أصواتهم معاً للأسف.

    ولا أدري إن كان علينا أن نسهم في تبطيء الكشف العلمي أكثر أم في تسريعه، ولكنني أميل لموجة في العلم وفي الإنتاج – خاصة الزراعي – اليوم تقوم على تثمين البطء والدعوة إليه. أميل لها في سياق البحث عن الدقة والجودة لكونها الأكثر انسجاما مع سنن الطبيعة، فالبذرة تحتاج وقتا لتنمو قبل أن ترى النور، والنخلة تحتاج وقتا قبل أن تعطي التمر والسحابة تحتاج وقتا قبل أن تهب ماءها للأرض وهكذا بالمثل تحتاج الكشوف العلمية للوقت قبل أن تثبت نظرية أو تدحضها.

    وفي نقاش حول إمكانية المزاوجة بين العلوم، أجابني عالمٌ حول رأيه: لايمكن المزاوجة بين حقول العلوم مزاوجة حقيقية، وإن تخصصات العلم الواحد يكاد يستعسر أحياناً دمج أساليبها مما قد يعده أهل كل تخصص فرعيٍ شيئا من اجتماع الجهل والجرأة معاً، فكيف إن كان بين الحقول! وهذا قد يبدو أكثر خطورة في العلوم شديدة الأثر كالجراحة مثلا والعلوم النووية أو الفقه والتأويل، إلا أن هذا الاتجاه ليس دائماً هو الجالب للموسوعية في فهم الأمور فهما بانورامياً.

  3. الاتجاه الثالث يتحدى فكرة الخصخصة من جذورها، ويستشهد بأن العلوم كانت جملة واحدة ثم تشعبت، وبأن علماءَ وفلاسفة وعظماءَ عبر العصور كان واحدهم مبدعا في عِلمين أو ثلاث، وكان السبب في كشوفه العلمية تلك الملاقحة بين المجالات المختلفة.

    خذ مثلا أبو القاسم الزهراوي الذي كان يعد أعظم الجراحين الذين ظهروا في العالم الإسلامي، ووصفه الكثيرون بأبي الجراحة الحديثة، ولكنه إلى جانب هذا كان متفردا في الكيمياء وعلم الصيدلة  خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، وله مساهماته في التقنيات الطبية والمفاضلة بين المعادن المختلفة لتصنيعها، هذا إلى جانب كونه فيلسوفا مفكرا كاتبا ومترجما عن أكثر من أربع لغات (1).

    والأمثلة قبل عصر العلم الحديث لا عد لها ولا حصر وتمتد من أرسطو لدافينتشي لابن سينا وابن النفيس وحتى عهد قريب، وهناك قصة طريفة تروى عن عالم الاجتماع ماكس فيبر (Max Weber) حينما انتقده أحد زملائه لنشره خارج نطاق حقله التخصصي، قال فيبر في رده: “أنا لست حمارًا ، وليس لدي حقل أرعى فيه”. اليوم، يكاد المثقف المتحرر من تأطير نفسه بالحقول يعدُّ منقرضاً وإن وُجد فلا يكون معتبراً عند المتخصصين للأسف، وأصبح التفكير العابر للمناهجية خطرًا على حياته المهنية، ومن المفترض أن يظل العلماء والمهنيون في مجال حقولهم كالحمير (عذرا للقراء)، رغم أن المشاكل الكبرى التي تواجهنا اليوم في العالم عادة ما تكون عابرة للتخصصات ، ولن تحلها الحمير بحسب ما ذكره عالم الإدارة والحوكمة د.غويدو باساو (Guido Palazzo) في مقالة كتبها قبل وقت قريب.

أي الاتجاهات أحق بالاتباع؟

لكل مقام مقال والجواب يمليه السياق؛ لكن علينا أن نتذكر أننا إن أردنا تحمل مسؤولية عصرنا فإننا نحتاج لشيء من كلٍ من الاتجاهات السابقة أعلاه، وعلينا أن ندرك متى نفيد من التخصص ومتى نفيد من التوسع فنحن أحوج ما نكون اليوم للتعاون الواعي فيما بينهم لتوسيع مساحات العلوم البينية (interdisciplines)، ونحتاج أن نهدم بعض صوامع التخصص العتيقة التي تعيق خروج فوائد مجال ما للحقول الأخرى، أو تؤخر الإفادة منه قبل أن يتأحفر، ونحتاج لنجعل تعاملنا مع التعددية أكثر انفتاحا من جمود المئة سنة السابقة، وأن نغني بيئاتنا بالعبرمناهجيية فالمستقبل تصوغه البيئات المتعلمة والمرنة في التعاطي مع تحدياتها.

وفي ذات الوقت يبدو لي التأدب مع العلم سمة هامة من سمات العلماء خاصة في الوقت الذي يتحدث فيه كل أحد عن كل شيء؛ والتأدب مع العلم صفة يشترك بها الراسخون في معظم العلوم، فضبط النفس عن التسرع بالإدلاء بإجابة يعطينا مساحة كافية لخوض الحيرة في الأسئلة الصغيرة ولتقليب الأمور من أكثر من زاوية وللإفادة من الرؤى المختلفة.

وأخيرا؛ فإن عوالم الأعمال الرقمية والريادة المؤسسية – وهي الأسرع بين الحقول في استشراف المستقبل – يسود فيها أمران يمكن التعلم من أحدهما وربما تطوير الآخر:

أولا:

الحديث عن تصميم تجارب تشاركية عملية (experimental designs) في المؤسسات الابتكارية يكاد يكون عمليةً يوميةً تجمع بالضرورة بين الرؤى المختلفة في التجربة الواحدة، وتبدأ من بذرة ولو كانت صغيرة فيها من الخطأ الكثير، لكنها مع الوقت والتكرار، وتصحيح المسار يمكنها أن تكون أفضل من عدم الخوض أبدا في ذاك السؤال.

المفصل الأهم في كل ما سبق أن الأمر ليس سهلاً أبداً، ليس سهلاً أن تكتسب المرونة التي يحتاجها المرء ليخوض حوارات وتجارب ومشاريع بينية عبرمناهجية وهي مهارة يصعب تطبيقها أكثر حينما يصطدم علم مع علم آخر، أو خبير مع خبير آخر، إلا أنها قد تصنع منك ومن فريقك فريقا ابتكاريا غير قابل للكسر يسود فيه التفاعل بين العقول ونقل الخبرات.

ولمن يود التوسع أكثر في فكرة الفرق غير القابلة للكسر فكتاب antifragility يعد كتابا أساسيا في هذا الموضوع.

ثانيا:

الحديث عن تصنيف الناس بحسب ميول شخصياتها لاتجاه دون بقية الاتجاهات أعلاه، حيث استحدث الممارسون لنا مثلا مسميات مقتبسة من علم نفس الشخصيات تقول أن من الناس من هو تخصصي بطبيعته (specialist) وهناك من هو تعميمي أيضا بطبيعته (generalist) وهناك مجموعة أقل شيوعا من نوعي الشخصيتين السابقتين يسمونها الشخصية التعددية أو العبرمناهجية(interdisciplinarist)، ورغم أن علم نفس الشخصية أصبح منهجا قديما نسبيا في علم النفس إلا أننا يمكننا أن نفيد منه أن الناس قد تميل لجانب أكثر من آخر في سياق ما فنحاول المقاربة بين الميول وإثراء الفرق بأكثر من ميل.

ولمن يود التوسع أكثر في هذه النقطة فإن كتاب القنفذ والثعلب لكاتبه أشعيا برلين كتابٌ لطيف ونقاشه يفتح نافذة أخرى لرؤية التصنيف هذه حيث يعتقد الكاتب أن الناس تميل حين تتخصص في مجالاتها إلى أحد نوعين ويندر أن يوجد من يجمع بين المنهجين؛ منها من يأخذ منهج الثعلب ومنها من يأخذ منهج القنفذ.

____________________
1.هونكه, زيغريد (1993)، شمس العرب تسطع على الغرب، دار الجيل، بيروت – دار الآفاق الجديدة، بيروت.

2. هذا رسم تبسيطي مبالغ في التبسيط لعمليات الدماغ التي تم إثباتها، نشره عالم أعصاب صديق من أحد كتبه بعد عشرين سنة في المجال وجمعه لداتا واسعة جدا؛ يذكرنا أن باحثي الأعصاب – تماما كما لايعرف علماء الفلك عن الكون إلا نزرا يسيرا من درب التبانة – لم يثبتوا إلا النزر اليسير عن كيف تتفاعل هذه العمليات معا في رؤوسنا و يبقى %99 مما ينشره قارؤوا كتب الصحافة العلمية في عداد الخرافات العلمية