لماذا قررت أن أخوض هذه التجربة؟
يستصعب العامي في علم ما قراءةَ الكتب التخصصية في ذلك العلم، ويتلقى لغتَها بحذر معروك بإدراكِه حاجَته لكثير من الدربة والأناة للتعاطي معها. ومن يريد أن يفهم مجالا ليس مجال عمله فقد يمسك كتابا من باب الفضول ثم يضعه لاستيعابه الشرخَ الواسع بين نُظُم تفكيره وبين نظم تفكير المشتغلين بذلك العلم، ولإدراكه أن هناك من الدقائق التي يحتاج العودة إليها الكثير قبل أن يفهم الكتاب الذي بين يديه فهما يؤهله لتقييم ما فيه من معرفة.
لا تشكل هذه الفجوة المعرفية مشكلةً أبدا حينما تكون هذه العلوم غير ملامسة بشكل مباشر لحياة الإنسان وغايات وجوده، فكتاب في علوم الفلك أو الهندسة الصناعية أو الجراحة مثلاً قد لا تهم السواد الأعظم من البشر، لكن القضية تصبح شخصية لنا حينما يلامس الموضوع جانبا لاتستقيم الحياة دون فهمه، كعلوم التفكير والنفس والصحة العامة والوجوديات أو المساحات المتقاطعة بينها فيما يسميه علماء المعرفة بالعلوم البينية.
وقد جاء من ضمن النوايا التي عقدتُها وجمعٌ من معارفي هذا العام أن نعكف على قراءة جماعية لكتب تعد أعمدة في مجالاتها تعيننا على الملاقحة بين العلوم والدربة على الاستلهام من بعضنا البعض، على أن يقودنا في فهم كل كتاب منها المتخصصُ منا في ذلك المجال.
وكما أن لكل علم أصول فقد وقع الاختيار في إحدى الجلسات على كتاب الرسالة للإمام الشافعي على أنه الكتاب العمدة في فهم أصول الفقه وهو كتاب فلسفي كٌتب بعقل منطقي متجرد، فوجدتُ في ذلك فرصةً طيبة لتمرينٍ فلسفي جميل في مجال اقتربت منه في أوقات متفرقة ولكنني بعيدة عنه كل البعد في العشر سنوات الماضيات وهو المجال الشرعي، ووجدت الأجمل أنني سأقرؤه بنظارة علوم الإدراك والتعلم الاجتماعي التي ألبسها وأعمل وأبحث فيها معظم الوقت.
وفيما يلي تلخيص لتجربتي في الاعتراك مع الكتاب وصاحبه
يعد كتاب الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي النواة التي – بحسب ما فهمت – تطور بعدها وبأثرها علم أصول الفقه، والفقه هو الفهم، وعلم أصول الفقه هو الأدوات التي يفهم بها علماء الشريعة التشريعات من نصوص القرآن والسنة النبوية لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. كتب الشافعي هذا الكتاب في القرن الهجري الثاني وجمع فيه أهم الأسس والأصول التي يعمل بها أهل هذا المجال.
ما المشكلة التي يحاول الكتاب حلها؟ أو الثغرة التي يحاول سدها؟ أو السؤال الذي يحاول الكتاب الإجابة عليه؟
هناك حكاية وردت في مجلة علمية صادرة عن جامعة هوبكنز – ولا أدري مدى دقتها – تدعي أن الشافعي قام بتأليف العمل استجابةً لطلب من أحد رواة الحديث في البصرة هو عبد الرحمن بن مهدي؛ مفاد القصة أن ابن مهدي أراد من الشافعي أن يشرح مغزى القرآن والسنة، وأن الرسالة كانت هي رد الشافعي وأنه كتبها مرتين ولم يسمها الرسالة بل سماها الكتاب.
والكتاب يحاول وضع أسس ومبادئ لاستقراء الأحكام من النصوص الشرعية (القرآن والسنة) حين استشكالها، أي حينما يُعتقد التعارض بين نص قرآني وآخر، أو بين نص قرآني وآخر من السنة أو بين سنة مروية من طريق واحد وسنة أخرى مروية بعدة طرق، إلى ما غير ذلك مما يعرفه علماء الشريعة من استشكالات هي محل دراستهم، وقد وضع الشافعي قواعد عقلية لاستقراء الأحكام عن طريق مكاملة الفهم بين النصوص، حيث ما كان للفقهاء قانون متكامل أو منهج مرجوع إليه في معرفةِ دلائل الشريعة خلال المئة سنة الأولى سوى تدارس النص المنقول عن بعضهم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث أن الكتاب قد وضع بعد 150 عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان وضع قانون في فهم ترجيحات نصوص الشريعة أقرب للضرورة الملحة، فاستنبط الشافعي أصول الفقه، ووضع قانونًا كليًّا يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلَّة النص، فثبت أن الرازي نسب للشافعي علمِ الشرع كنسبة أرسطو إلى علمِ العقل
ماذا استفدت من أسلوب الكتاب كقارئ عامي لا كعالم شرعي؟
- أسلوب الفنقلة (فَنْقَلَ أي: فإن قال قائل كذا … قلت كذا) وهو أسلوب في الحجاج جميل يفترض قائلا مجهولا له آراء ويجيب الكاتب برأيه عليها، ولم أكن أعرف أن له اسما حتى قمت بمراجعة هذا الأسلوب لأعرف إن كان شائعا عند علماء الشريعة فوجدته نسقا خاصا بالشافعي سماه المحللون بعده ونسبوه إليه
- أسلوب الترقيم للحجج الواردة في الكتاب، حيث جعل لكل قانون فقرة تشبه ترقيم كتب القانون الحديث، ولا أدري إن كان هو أول من عمل بهذا أم سبقه إليه أحد، إلا أنني لم أفهم تماما طريقته في الترقيم، فأحيانا يرقم ما هو منسوب له وأحيانا يرقم ما هو منسوب لغيره من القول، أحيانا أخرى يرقم آية، ثم ينتقل لفقرة أخرى، وهكذا.
- أسلوب التوثق من درجات نقل الخبر ، وهو من أجمل ما استفدته في استقراء الخبر المنقول عن أحدهم
مثال عملي: قد يأتيك خبرٌ عن أحدهم، ولنفترض هنا أن الشخص الذي خبره محل جدل هو شخصية لها ثقل علمي أو سياسي تريد أن تصوت لها، وبينما أنت في طور اتخاذ قرار هل تصوت لهذا الشخص في الانتخابات أم لا، جاءك خبر عنه يقول أنه لا يدعم برامج التغير المناخي، وبالتالي فقد تفهم أنت أنه لا يعنى بالبرامج الداعمة للطبيعة، أهم ما استفدته من كتاب الشافعي هو كيف تمنهج حكمك على الخبر بناءً على تراتبية رصينة من الترجيحات قبل إصدارك الحكم، فقد يكون هذا الخبر مجتزأ من سياق، قد لا يعني ما فهمه الناقل إليك، قد يكون خبرا كاذبا، قد يكون الخبر صحيحا وقاله الشخص فعلا ثم غير رأيه، أو قاله مازحا، أو قد يتعارض هذا الخبر مع منهج الشخص بشكل عام ولكنه وردت في سياق خاص، إلى آخر الخط من قد وقد من الممكنات
ماذا استفدت – لابسة عدسة علوم المعرفة والإدراك – من أسلوب الكتاب كتجربة قرائية في أمهات الكتب الممنهجة لعلوم أخرى؟
فيما يلي محاولة مني لوضع خريطة ابستمية (معرفية) للتعامل مع الخبر استهداءً بمنهج الكتاب:
- التثبت من صحة الخبر نصا – هل يصح حدوثه فعلا؟ كم من الناس المشهود بصدقهم شهده ونقله؟
- فهم السياق – متى وكيف وأين ورد؟
- فهم معناه في إطار سياقه – كيف يفهم الخبر حين وضعه في الصورة الكاملة للسياق الذي ورد فيه؟ هل يمكن أن يفهم ما يخالفه؟ هل يمكن أن يكون مجتزءا؟ هل يمكن أن يكون مزاحا؟ الخ
- فهم محدادته – هل كان مقصوده عاما؟ هل يشمل حالات خاصة؟ هل كان يخص سياقا أكثر تحديدا
- فهم النسق العام – حين مقارنته بنصوص وأخبار أخرى وقوة ثبوتها كيف تفهمه؟ وذلك من مطابقة النص محل الخبر لسيرة حياة القائل وما يفهم من أسلوبه ونهجه العام – هل ينسجم نص الخبر مع ما هو معروف من هذا الشخص عموما؟
- العودة للخبر بفهم أكثر شمولية لصحته ولسياقه ولمعناه و لمحدداته للحكم على الخبر بعد السابق
لا أنكر أن التجربة كانت غريبة وثرية في آن واحد، فخلع قبعة العلم التجريبي وطرق الكتابة فيه ولبس قبعة أخرى كان ثريا، ولكنه اتسم بالغرابة لبعدي عن أساليب البحث والتنقيب والمنهجة في العلوم الأخرى، لكن الفائدة من التناقل والترافد بين العلوم كبيرة جدا.