في مقال سابق كنا قد ناقشنا العزلة وقيمتها الاقتصادية في زمن تسليع الانتباه (commercialization of attention)، وكلما حاولنا تلمس ذواتنا أكثر، بدت لنا أهمية العزلة الاختيارية على النضج النفسي أكبر في جوانب وانتقاصها منه في جوانب أخرى.
وهذا ما وعدت القراء به في المقالة السابقة: كيف نحقق التدافع والتفاعل مع هذا العالم بما ينمينا ولا يؤذينا؟
قبل أن أبدأ، لابد من الاعتراف بأنني كنت قد عاتبت نفسي لاختياري لموضوع العزلة في الوقت الذي يعاني فيه العالم من موجة عزل إجباري وراء أخرى ويرزح غالبنا في وحشة الحجر الصحي وحاجة للأنس مع الآخرين في محيطه، بينما يبدو من ظاهر المقال تغنّيه بأهمية العزلة والدعوة إليها.
فمتى نعتزل ونصمت؟
يمكن للمتأمل في أحوال جماعة بشرية ما في عهد من العهود في بقعة ما أن يقرأ في صمتها الجمعي ما لا يمكن أن يقرأه بين سطور سائر إنتاجها للجلبة، وقد تغدو قراءة الصمت الجمعي بعد الدربة عليها أبلغ معين على الاستبصار فيما يفتقر له مجتمع ما ومايحركه. وسواء كان هذا الإنتاج معرفيا أم هراءً اجتماعيا كما يسميه الفيلسوف دونو؛ فإن ما لا يتشاركه الناس في مساحاتهم يخبر بالكثير عن الثقافة الناظمة والقهر الموجّه لذلك المجتمع إن شئت؛ قصدوا ذلك أم غفلوا عنه.
تأمل معي المسكوت عنه في مؤتمر نظمته جهة ممولة ما في حقل علمي ما، تشكّل الموضوعات غير المسموح بطرقها عادة مادة دسمة لتأملك بالإطار المرسوم للتفكير في تلك المساحة وما لا يمكن نقاشه في ذلك الإطار.
في العلاقات مثلا تأمل في صمت الزوجين على موائدهم وطرق تأطير الحوار لأسرة ممتدة ما من أهل الطرفين متى يتكهرب الجو تماما؟ تعرف حينها الخطوط الحمراء التي إذا ما تم خرقها أخبرك بكثير من المردوم تحت سجادة الممنوعات في تلك الأسرة
الأمر ذاته في المؤسسات، في نشرات الأحداث، في رواقات وزواريب وقنوات الحوار و في المجالس … بل في وكالات الأنباء ومجلات النشر و غرف القرارات المصيرية.
قد تغدو قراءة الصمت الجمعي بعد الدربة عليها أبلغ معين على الاستبصار فيما يفتقر له مجتمع ما ومايحركه
أمان عيد
لقد ألهمتني قراءة الصمت الجمعي تتبع السلطة الثقافية الحاكمة في أي مساحة وفهم بعض السنن في المجتمعات ومنها على سبيل المثال:
انظر مثلا في مَلِكٍ يسبح بحمد إنجازاته الجموع ليلة اليوم الوطني ويسجد له شعبه بالثناء؛ أي قيمة لثناء ما لم يكن الصمت عنه ممكنا؟ وما لم تكن مخالفة الثناء لاتفسد للود – بل وأحيانا للبقاء على قيد الحياة – قضية.
تأمل ذلك الحدث الابتكاري العظيم الذي يموله تاجرٌ مغرق بالفساد ثم يعنوَن الحدث على أنه الحاضن لابتكارات الشباب المهتم بمستقبل المسيرة الإنسانية، ويكرم بجوائزه المطبع مع آليات ذلك الاتجاه فتصبح وساما على صدر كل من يريد أن يوصم بالابتكار، ثم توسّمْ في الشباب الصامتين الذين حادوا – اختيارا – عن ذلك الدرب للنجاح بعناية ودراية كل الخير لكن أيضا تأمل أين يمكن أن تجد هذه العقول الصامتة المنعزلة إن خلت منها محاريب النجاح الصارخ.
ثم تأمل مثلا في مجتمع ليبرالي حر يعلو فيه الصوت الجمعي باتجاه ما؛ كيف تقف تلك الحرية عاجزة عن احتواء ما سوى صوت الاتجاه المسيطر، فلا يجرؤ أحد في ذلك المجتمع على البوح برأي يخالف الصوت الجمعي ويرفض ذلك الاتجاه أو يطرح طرحا مختلفا، هل يصبح لركوب الموجة أي قيمة تذكر إن كان الخيار الآخر الاوحد الممكن هو أن يقابل صاحبه بالتنكيل و بالاستهزاء وبالإقصاء على أية حال إن كان صوتا مناوئا؟ هكذا هو حال المتحدث برفض المثلية مثلا والمجاهر بالتدين بأي دين كان في أوروبا القرن الواحد والعشرين.
إن تأمل الصمت الجمعي ينبيك بمن يدفع الأثمان في كل بيئة وبمن يغيبه الظلم وبمن يتجاوزه الزمن إن اختار الصمت درءا للفتن أو حمايةً لمن يحب وبمن يُطرد من المسارات العامة لنظم الحياة فقد كان السواد الأعظم من يافعي أمة المليارين صامتا حيال الكثير لعقد كامل من الزمن، بينما كان في غياهب هذا الصمت ضجيج مهول من الخوف والترقب والتساؤل والأمل المتراكب بعضها ظلمات فوق بعض في النفوس وبين النفوس، بينما كانت أصوات الرموز تعلو باستقطابات المؤثرين. هل سيتذكر التاريخ هذا وأننا كنا في صمت نرفض القطبية ونرفض العنف ونرفض الدين المسيس ونرفض الكثير مما لا نعرب عنه؟ لا ندري…
متى ولماذا يعتزل الناس نفسيا؟
أما نفسياً فقد يكون الصمت أذىً يعاقِب به من نُزع من قلبه شيءٌ من الرحمة وصُب مكانه شيء من الاستعلاء، وقد يكون إهمالا ممن ضج ذهنه بأصوات تحرمه أُنس من يحترمه، وقد يكون أدباً واحتواءً لضعف من نحب ساعة اشتياط غضبهم، وقد يكون مسعاة لتهذيب النفس وتصفيتها وتخلية للفكر من شهوة الكلام، وقد يكون سعة في نفس قائد ليهب المساحة لتلميذ ليتألق وينتج ويتمدد، و قد يكون خيانة للحق ونصرة لسلطان – والسلطان ليس دائما بشريا – ظالم، وأجمل ما يكون الصمت حين يكون حبا عجز ماء البيان عن ري مرجه بين روحين.
وحين جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إني قد حدثت نفسي ألا أخالط الناس فما ترى؟
قال: لا تفعل، إنه لابد للناس منك، ولابد لك منهم، لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا.
وقد ذكر في شرحه أن أصم سميعاً تعني:
حفظ السمع عما لا يليق، فتسمع ما ينفع ويحسن ويجمل، ولا تسمع ما تكره،
و أعمى بصيراً: تبصر ما ينفعك وتغض البصر عما لا ينفعك ويضرك،
سكوتاً نطوقا: تسكت عما لا ينفعك ويضرك وتنطق بالحق ممتثلا قوله ﷺ: “فليقل خيرا أو ليصمت”.
وقد وصى معاذ بن جبل من كان سفيرا إليهم أن يكثروا الصمت مع الناس، ويكثروا من الكلام في خلواتهم مع رب الناس، و أوصى بشر الحافي يوما تلميذه:
” إذا أعجبك الصمت فتكلم، وإذا أعجبك الكلام فاصمت” مرشدا إيانا لننتبه إلى توجيه وتصفية النية ومعاندة حظ النفس لتزكى.
فاللهم ألهمنا متى نصمت وكيف نصمت ولماذا نصمت، ومتى نبين وكيف نبين ولماذا نبين.
على عادتي أشارككم في كل مقال بعمل فني معه؛ اللوحة الفنية أعلاه تصميم نشرته شركة ليغو أو الجناح المعني منها بألعاب المؤسسات واسم التصميم (Covido ergo Zoom) وأعادت نشره عدة صحف منها صحيفة النيويورك تايمز في إحدى أعدادها تعبيرا عن متطلبات العمل الجديد وهو تعبير نطلقه في الاستشارات المؤسسية حديثا على ما نتوقعه للتغيرات في طبيعة الأعمال في السنوات القادمة (New Work)