دعك من الحديث المطول الذي قد أسرده لك عن أحلامي و طموحاتي، ورؤاي العظيمة لهذا العالم، إن أردت أن تقيس كيف تساهم حياتي بجعل العالم أجمل، ما عليك إلا أن تزورني؛ فالبيوت -برأيي- هي المرآة الأصدق لتحدث عن اهتمامات أصحابها وأولوياتهم، دع مقالتي وانظر حولك لتتأمل ما الذي يمكنه أن يخبره بيتك عنك؟
- من أنت؟ ما مستوى قيادتك لذاتك وانضباطك في التنظيف؟
- بم تهتم؟ ماذا تجمع ولماذا تجمعه؟
- أمادي أنت أم متبسط؟ أاجتماعي أم الأولوية لأمورك الخاصة؟
- ألك اهتمامات وهوايات أم أن حياتك فارغة من الجمال مليئة بالكراكيب؟
- ما الذي يشغل الأولية ليكون في صدر بيتك وما الذي يعتبر ثانويا يختبئ في زواياه البعيدة
- كيف تقضي وقتك؟ ما الذي يحيط بك؟
- ما القضايا التي تدعمها؟ المواضيع التي تحبها؟ الكائنات التي تهتم بها؟
نحن نقضي في بيوتنا من الحياة ثلثها فأكثر، ونخزن فيها تقريبا أكثر ما نجمعه في رحلة الحياة، ولهذا يمكنها أن تخبر بالكثير عمن نكون حقيقة بعيدا عن تنميقنا لصورنا خارجها.
اكتشفت في رحلة ثلاثين عام أن هناك ما أريد أن أدعوه في هذه المقالة السريعة “هندسة الإلهام” فمن البيوت ما ندخله لنقرأ في لوحاته إلهاما، وفي كتبه إلهاما، وفي شمعة وُضعت لتحيطك بالدفء فيه إلهاما.
دخلت بيتا لأحد أقربائي منذ عامين فوجدته قد حول وزوجته مساحة كبيرة من صالة البيت لمركز تعلم مبكر لأطفالهم الثلاثة، بشكل مرتب يسهل على الأطفال فيه تناول الغرض واستخدامه وإعادته دون أن يؤثر على زاوية استقبال الضيوف، فشعرت أن أولويتهما واضحة وهي إعداد أطفالهما لغد جميل أكبر من تنميق الصالة لتناسب ذوق ضيوف قد لا يدخلونها أكثر من مرة في العام.
هندسة محيطك إما أن تلهمك، وإما أن تحجمك، وبيتك هو المكان الذي تهفو إليه نفسك وتسكن فيه روحك حين تختلي به عن الناس، وتدور في فلكه حياتك برمتها، فلا يجعل الذكي بيته مقبرة لروحه أو مستودعاً ليراكم آلامه وما اغبر وتقادم في حياته، بل يعمره بما يرقى به ويسعده ويفتح نوافذ قلبه وعقله ونفسه، وقد أوصت أم ابنتها قائلة:
ولتجعلي بيتك مرآة يتجلى على مرآتها تناغمك الداخلي العميق
فكيف يمكن أن يتحقق إعمار البيت بما يعمر القلب والعقل و الروح؟
هناك مدارس عديدة في تنظيم البيوت وترتيبها، منها ما هو ممارسات شرقية قديمة مثل فن فنغ تشو وي، ومنها ما هو نظم أوجدها من جرب حياة الترف والزخم المادي فلم يجد فيها راحة مثل قانون التبسط ومنها ما يتبع نظم جودة الحياة مثل علم توافق المساحات مع ما يريح الإنسان” الإيرغونوميكس“، ويمكن للقارئ أن يبحث عن أي منها ويستزيد.
إلا أن الفكرة هنا ليست التسويق لأي من مدارس التنسيق المنزلي والديكور الداخلي، ولا المقارنة أيها أفضل، و إنما يعنى المقال بشكل رئيس بالتأكيد على بناء وعي جديد تجاه بيتك ومحيطك و أثره عليك وعلى داخليه
ولأنني مهتمة بالأمر منذ زمن، قمت بوضع مقياس بسيط جداً لهذا الأداء وأثره في تطوري ونمائي الشخصي؛ طبقته على بيتي و على عدد من بيوت من حولي
اسأل نفسك السؤالين التاليين:
السؤال الأول: (1) هل يمكن اعتبار البيت محرابا لحب القيم التي أحبها في حياتي؟ لتقريب الفكرة إليك المثال التالي: تخيل لو سألنا سمر عن أهم ثلاث قيم في حياتها؟ لنقل أن سمر أجابت بأنها تهتم بقضايا البيئة، وبقيمة التآلف بين البشر، وبقيمة العطاء، إذا قمنا بزيارة سمر ولم نجد ما يستحث حب هذه القيم الثلاث فينا، فإن البيت لم يشكل محرابا لما تحبه سمر ولم يحدثنا عن أهمية هذه القيم لديها بأي شكل من الأشكال.
ولماذا على البيت أن يكون محرابا لحب القيم التي نحب؟ هناك الآلاف من الأبحاث التي تؤكد على تأثير البيئة المحيطة في تعديل السلوك سلبا أو إيجابا، سلوكنا نحن أولا، وسلوك من نحبه من زوارنا ثانيا، وبالتالي يعمل البيت على تعزيز قيمنا. لمن أحب الاستزادة والتبحر أكثر يمكنه قراءة كتاب لطيف في هذا المجال: غير بيئتك، لتغير ثقافتك
و مع أن الكتاب مخصص لبيئات العمل، لكن المغزى يمكن تعميمه على أي بيئة أخرى أيضا.
جرب أن تغير ترتيب مساحة صغيرة في المنزل لتلك الهواية التي أردت البدء بها منذ سنوات ومازالت أغراضها حبيسة الخزانة، أو أن تكتب تلك حكمة حول القيمة التي تريد لأبنائك أن يعززوها في حياتهم بشكل فني على إحدى جدران المنزل وانظر الأثر بعد شهر من فعل ذلك!
والسؤال الثاني: (2) ما المشاعر الثلاث الأولى التي تنتاب الداخل إلى بيتك؟
هل يحفز لديه الفضول والمغامرة؟ أم يضيف قتامة وركاما بما تراكم فيه وتكسر؟
هل يشعره بالشيخوخة والتقادم؟ أو يبث فيه النشاط والسرور؟
هل يضغط عليه البيت وتصميمه المتوهج ويزعجه؟ أم يبعث على الطمأنينة ببساطته وهدوء ألوانه؟
هل تحفز ألوان المفروشات النزاع؟ أم الحب والوئام؟ هل تحفز لديه استكشاف هواياتك معك؟ هل تفتح آفاقا جديدة له؟
لماذا أعتبر هذا السؤال مهما؟ لأنني أؤمن أن بيئاتنا تؤثر فينا كما نؤثر فيها، ولأننا نقضي وقتا طويلا فيها والحياة خارجها لا يمكن التحكم بها، فلابد -على أقل تقدير- أن يوفر البيت الحاجات النفسية لك ولمن يعيش معك فيه ويبث فيكم الحياة لمواجهة مصاعب الحياة، يخلع الداخل عند عتبته وعثاء العيش وصخبه، ويخرج منه بأفضل مما دخل: طاقة متجددة وقلب حاضر وعقل متحفز للعطاء.
ماذا لو لم يكن معي من المال ما يكفي لأغدقه على الترف الجمالي؟
السؤالين أعلاه لا علاقة لهما على الإطلاق بدخل الفرد، أو بمستواه الاقتصادي أو بمساحة بيته أو إن كان مملوكا أو مؤجرا، دائما أم مؤقتا، وقد تدخل لغرف الطلاب الجامعيين أحيانا من ذوي الدخل المحدود جدا، فترى لطالبين في نفس التخصص ونفس الشقة غرفة تبث فيك السرور والنظافة والإلهام، والأخرى تضغط عليك حتى تشعر حين تخرج منها أنك غادرت سجنا مؤذيا لنفسك.
قد ندخل أحيانا بيتا لطيفا لا يعدو الأربعة أمتار مربعة فينبث فينا من الإلهام والإشراق الكثير، و قد ندخل قصرا منيفا فنتمنى الخروج منه دون أن نعرف لماذا شعرنا بذلك وإن كان مليئا بسبل الرخاء والرفاهية والتقنيات .
إن بيوتنا هي عوالمنا المصغرة، أو هي مرآة مكبرة لعقولنا، ولهذا تحتاج منا العمل عليها بشكل دائم كما نعمل على أنفسنا لنطورها ونحلق بها
** الصورة أعلاه لمشروع في السويد يسمى كابينات ال72 ساعة، وهو مشروع فني بحثي لأثر الطبيعة على ذوي الوظائف الصعبة ، في إطار سياحي يوفر غرفا من زجاج في الطبيعة متناثرة حول بحيرات في منطقة هينريكزهولم وقد تم تصميمها من قبل المعمارية جينا برغر
ما أروع هالمقال
شكرا جزيلا على ما تشاركينا به من إعادة النظر للأمور بطريقة منطقية
المثال عن بيت صديقتك – قلما نجد هكذا أمثلة