من العادات التي ينشأ عليها أبناء المدن حديثة الطابع – من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون – هو الاستهتار بما لا ينسجم مع إيقاع سرعة حياة المدن وصخبها، حيث يتنافر هذا الإيقاع الذي تتطلبه الحياة المدنية بصخبها وألقها، مع بعض الفنون الثقافية اليدوية، والحرف الشعبية الدقيقة. وفن الطهو ليس باستثناء عن هذه الفنون، باعتباره -لأهل المدن السريعة النبض- يكاد يكون أمرا روتينياً لا يؤبه بتفاصيله إلا من فئة رواد مطاعم ميشلين. ويمكن عزو ذلك الاستهتار إلى نمط الحياة الذي يضغط على أهلها لاستغلال كل ثانية فيما يدر المال والأعمال. فلا وقت لدى الأسرة متوسطة الحال للتساؤل عن محتوى الوجبة السريعة أو عن جذورها أو كيف وصلت من المزرعة إلى سكين الطاهي إلى دراجة التوصيل إلى معدتي، وقد يعود ذلك أيضا لطبيعة هذه البيئة المستقبلية المبرمجة على الاحتفاء تقنياً وصناعياً بما لا يترك مجالاً لتذوق الجمال الطبيعي البسيط إلا إن كان منسجماً مع بلاستيكية الحياة وتضخمها.

  في جملة تغييرات عديدة أجريتها على حياتي في ال2018 هو قرار أخذته تجاه علاقتي بالطعام، حيث ألزمت نفسي بثقافة التمهل؛ التمهل كفلسفة حياة، فالنبتة تحتاج وقتا حتى تنمو والبذرة تحتاج وقتا حتى تطل برأسها من التربة، والعلم الأصيل يحتاج وقتا حتى يتم إنتاجه وتكراره وإثباته، وجل ما هو ذو قيمة يحتاج وقتا، والطعام يحتاج وقته مني كي يطون طيباً. هدّأتُ من إيقاعي العام لأستمتع بالأشياء الصغيرة في طعامي سانحة للعمق أن يتخلل حياتي من نافذة غير النوافذ التي تعودتها والتي كان غالبها يتسم بالسرعة المفرطة والعجالة والبحث عن الإنتاجية، مثلاً بدأت أشتري الخضار والفاكهة من موزعي المزارع المحلية المحيطة بالمدينة، بدل شرائها من السوبرماركت، وأخصص لها وقتها للطبخ البطيء، ما اضطرني لتغيير بعض الأواني التي تسرع العمليات لكنها تسلب الطعام فائدته، وقررت أن أشارك وجباتي مع آخرين ما استطعت، في مدينة تغلب عليها الفردانية ثقافياً.

أمران انسجما مع مرحلة التمهل ودخلا إلى حياتي مع هذا التغير:

  • الأمر الأول هو نوع جديد من الامتنان للنعم ومنها نعمة الطعام (gratitude that opens systems thinking in food chain)، أن تثمن ما تأكل فتأكل منه وأنت تستحضر المزارع الذي سقاه، والذي حين أينع قطفه لك، وتستحضر الموزع المحلي الذي جلبه إليك فاشتريته، وتستحضر الطاهي الذي حضره لك طبق شهيا وإن كان هذا الطاهي هو أنت في غالب الأحيان. إلا أن هذه الدورة اليومية لمهمة روتينية من الحياة حينما تحضر فيها النية والتمهل تعطيك بعداً آخر على شرفة طبق، نعمة  يتذوقها من قرر أن يبني علاقاته في بيئته المحلية مع المزارع والبائع والطاهي وكل من يخدم في سلسلة الغذاء ويفهم كيف للتأمل بالنظام الغذائي أن يعبر عن النموذج السائد للعلاقات بين الأشياء في مكان ما في العالم.
  •   والأمر الآخر هو استحضار أن الطهي فن متكامل يعبر عن العلاقات الأنثروبولوجية بين الناس (food as an anthropological lens)، وهو من الفنون المهملة في ثقافات تميل إلى استعراض عضلات السيدة التي قامت بتحضير ستة أنواع فما فوق على طاولاتها. هذه الثقافة تترك المرأة بين خيارين؛ إما أن تعتقد أنها لا تريد أن يحصر أحدهم قدراتها في حدود مطبخ ورحم فتهرب من أحدهما أو كليهما، أو أن تعتقد أن تفوقها يجب أن يكون جليا في قدرتها الخارقة على إنتاج عدد هائل من الأطباق في وقت قياسي بغض النظر عن جودة وجمال ولذة ما تنتج.

    وهذان الأمران معاً فتحا لي أفقاً جديداً لاستيعاب الثقافات عبر التفكر في منظومة الطعام كلها، من الزراعة، إلى القطاف، آداب الأكل، طرق التحضير، أساليب الحفظ والتخزين، طقوس الطعام، ولكل ثقافة في هذا مذاهب. فهمت كيف تُجسّد طريقة اتصالنا بالطعام وتحضيره بصائر لأعمق تفاعلاتنا مع العالم الطبيعي حولنا وآليات تحويل هذا التفاعل إلى سلوكيات وأفكار وأنسجة مجتمعية مُحوّلة جسد العالم أو روحه أو كلاهمها معا إلى أجسادنا وعقولنا ومساحاتنا بوسائل إما تندمج مع العالم، أو تنطلق من السيطرة عليه، أو منفطمة عن فهمه تماما.


على عادتي بانتقاء عمل فني ينسجم وموضوع المقال، اخترت الصورة أعلاه والتي التقطها الفنان المصور يوسف الشعيلي لشباب العائلة تعبيراً عن ثقافة الإفطار الجماعي الأنيق في عمان في يونيو 2017