كتب غريغ مورتنسون في كتابه “ثلاثة أقداح من الشاي” حول مغامراته المؤلمة لنشر السلام ، حيث كان ممرضا في الولايات المتحدة، يمارس هواية تسلق الجبال، وتعرض لحادثة أليمة ضاع خلالها في 1993 في مرتفعات كاراكورام والتي أعلاها القمة الشهيرة (K2) والتي تمتد بسلسلة طويلة بين الباكستان ، الهند، أفغانستان، طاجكستان و شيء من الصين. اكتشف مورتنسون إثر ضياعه أن قرىً بكاملها هناك تفتقر للتعليم فقرر تحويل حياته من التمريض إلى بناء مدارس هناك، و في الكتاب كثير مما قد يتعلمه كل محب للتنمية وللعطاء حول وعورة طريق من يود إشعال الشموع بدل لعن الظلام في بيئة ما.
كيف للألم أن يحيي؟
الوحدة الخامسة من مغامرات مورتنسون تتحدث عن نوع من الألم قد يعرفه من حاول يوما المبادرة في حل مشكلة مجتمعية في مكان ما والتي قد تتفق أو قد لا تتفق مع أنواع لا حصر لها من الآلام التي تواجهك وتواجهني في هذه اللحظة من الزمن ولكنها مفيدة على أية حال؛ قام غريغ بإرسال رسائل لطلب ألوان مختلفة من الدعم لأكثر من 500 من مشاهير العالم ، كان يعتقد أنهم سيتفاعلون مع رسائله بمجرد وصولها لهم ، يشرح فيها مشروعه و أهميته ، وعلى الرغم أن الدعم لا يتطلب أحيانا أكثر من تغريدة، إلا أنه لم يحظ بأي رد من أيّهم، رغم أن بعض هؤلاء المشاهير يضع التعليم في المناطق النائية أحد أهم أولوياته! هذا الألم الذي يكسر صاحبه مرة تلو مرة في محاولات عديدة للبدء بالغرس أو للاستمرار فيه، كيف نتعامل معه؟ هل ستفكر بالانتحار؟
لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الإستمرار فى التفاؤل؛ أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرّر للموت وهم لا يملكون مبرّراً للحياة ؟
إميل سيوران
حين تنكسر تماما وترى أن محاولاتك لأن يهتم أحد ما لما تهتم به أنت تبوء بالإهمال، دون أن يضعفَ هذا من عزيمتك أو اهتمامك بالأمر وإنما يشعلك أكثر، فاعلم أنك على وشك البدء برحلة تتغير فيها أنتَ داخليا وتغرس فيها بذرة حيث تهتم ولا أحد سواك يهتم، حيث تنكسر مرة بعد أخرى في قاع مظلم بعد آخر وتسأل نفسك: لن يأتي أحد للمساعدة فهل سأتراجع؟ أم ماذا سأفعل الآن؟
تبدأ رحلة سحرية حين يوقن المرء أن أحدا لن يكترث ولن يأتي للمساعدة في تحويل حلمه إلى حقيقة
أمان عيد
قد يكون لدى المرء ألف حلم و غاية، ومئات التفرعات والاهتمامات، وقد يحاول السعي في درب فيتخبط هنا بشيء وهناك بآخر، إلا أن ذلك الحلم الذي يكون فيه المرء مستعدا لبذل كل شيء في سبيله، والتضحية بكل شيء، والمخاطرة بكل شيء ، و الاستمرار مهما كان الدرب وحيدا منعزلا ومظلما، فربما يكون لهذا الحلم دون غيره – خاصة إثر تحقيقه – أثرٌ مختلف.
حينها يتضاءل حجم رجل الأعمال الذي أهانك بسخريته، وتنسى آلاف الرسائل التي ناشدت فيها دعما ممن كنت تنظر إليهم بإكبار و لم يجبك عليها أحد ، فجأة سيخفت صوت القهقههة التي جاءت من أقرب الناس في بداياتك لتثنيك، وتبرم الشفاه التي استخفت بأهمية ما تفعل، والتحديات التي ضيقت عليك الأرض بما رحبت، و الأبواب التي أغلقت، ربما لن تنسى أيا من ذلك، لكن حين تتصالح مع كل ما سبق وتسمح للألم أن ينميك ؛ تعود كل عقبة مرت في طريقك لتحقيقه حجرا إضافيا تضعه لبنة في ارتقائك إلى غايتك.
الأفكار التي اعتقدتَ يوماً أنها سُرقت منك لن يعود لها تلك الأهمية فليست تعبر بدقة عما كنت تود بناءه على أية حال، لحاق غيرك بمتابعة اهتماماتك ومطاردتك عليها ومنافستك بها سيصبح له بعد جميل ترغب به ولا يضايقك ولا تراه متعارضا مع رؤيتك:
فهل التقليد إلا لون من ألوان الإشادة والإطراء؟
أمان عيد
ولكن قبل أن يحدث هذا و يبدأ المرء بحصد بعض ثمر ما زرع، تقول دانييلا دوبي في شعرها الجميل: “لابد أن تنكسر القلوب مرة بعد أخرى كل يوم انكسارات صغيرة كي تقوى”، و أضيف أن القلوب لكي تتمدد و تنفتح لا بد أن تذوق طعم الشوك فلا تجد من يساعدها على اقتلاعه، وأن تجرع المر ثم ترى أنه ما من سبيل آخر سوى أن تنهض مستمرة في إرادة الحياة، سامحة لهذه الانكسارات أن تعركها بالحب والأمل و مفسحة خِلال هذا القلب ونوافذه للنور ليدخل فيزيده وميضا و توقدا.
ما الخيارات التي يملكها المرء حين يتألم على أية حال؟
يمكن لنا أن نتخيل الألم النفسي كحفرة سوداء نقع فيها دون انتباه، يمكن للمرء أن يختار البقاء هناك في قاعها حين يقع، مستمرا بتكرار اجتراره لألم السقوط وتذكره و لوم نفسه أو الآخرين عليه و قابعا هناك حيث لا بصيرة سوى رؤية المزيد من الظلام والشعور بالاختناق مالم يتحرك ليخرج من هناك، الخيار الآخر هو أن يسمح للألم هذا أن ينضج بداخله حكمة جديدة ، فتولد من رحم الألم حياة فوق الحياة يتعلم معها المرء كلما وقع و انكسر أن ينهض بقوة أكبر و بنضج أكبر ، متذكرا أن الألم لم يوجد في تركيبتنا إلا أداةً من أدوات البقاء! أي أننا و رغم أننا جميعا نكره الألم ولا نحبذ اختباره وندعو ألا نُبتلى بما يؤلمنا إلا أنه حين يحدث فإنما هو ميكانيكيةٌ وُضعتْ فينا لكي تحافظ علينا، فحين نحسن استخدامها كأداة للبقاء تكون إحدى سبل الحياة الطيبة.
بعض البحوث العصبية التي تدرس اختلاف الناس في التعامل مع الألم ؛ صنف العلماء فيها الناسَ في تعاملهم مع الألم إلى فئات:
- فئة تميل لتشتيت انتباهها عن الألم والتشاغل عنه
- فئة تميل لتضخيم الألم و جعله كارثيا
- فئة تحاول قمع الشعور بالألم تماما وإخفائه
- فئة تتعامل باتزان مع الألم و تتقبله بمواجهته و التفاعل معه
و في كثير من نتائج هذه الدراسات ما يشير إلى أمر في قمة الخطورة:
إن الفئة التي تتمكن من تخطي الألم الحاد و تتمكن من تخفيفه و تحظى بأقل نسبة من آثاره السيئة هي الفئة الأخيرة التي تتعامل معه باتزان ، تتقبله و تواجهه و لا تهرب منه ولا تقمعه ولا تتجاهله، في حين أن بقية الفئات يتحول الألم بداخلها إما لأمراض عضوية أو إلى قلق واكتئاب، أو يثير سمية الجسد بتفاقمه.
فكيف توازن الألم وتواجهه؟ ببساطة يمكن تلخيص ذلك بالتالي:
حينما يواجهك مؤثر مؤلم، إنحت مساحة في عقلك بين مواجهتك له وبين استجابتك له: مساحة تمنحك قوة ونماءً عاطفيا للتعامل مع التجارب السلبية في الحياة ، مع الوقت ورغم صعوبة الأمر ستتمتع بالتحرر من أمرين (1) من أن يستعبدك الألم ، و (2) من أن تستعبدك مظاهر ضعفك التي تتجلى بالاستجابة المتسرعة للألم أو للمؤثر الذي أحدثه
أمان عيد
وهذا قد يحتاج للكثير من التدريب كأي عضلة أخرى لدينا، لكن البداية تكون بالاعتراف بالألم ، بالبحث عن أسبابه و معالجة جذوره في النفس، والتعامل معها بما يطورنا، دون أن ينعكس هذا على النفس أو على الآخرين حولنا غضبا، أو نكدا، أو مزاجية، أو إساءة انفعالية، أو غير ذلك.
وقد يذهب بعض مستشاري التنمية البشرية لنصحنا بما هو أبعد من التعامل مع الألم باتزان؛ حيث يقول المستشار المهني يوغينيو موليني: ما دمت على قيد الحياة فأنت معرض للإساءة التي تحدث الألم، سيكذب الناس عنك وعلى لسانك، سيساء فهمك وتوضع نواياك موضع الشك، ستواجه الصعاب و التحديات ، ستتعرض للمهانة ، ستتعرض للطعن ، للإهمال أو للظلم و ربما لكل ما سبق معا أو لبعضها أو لغيرها، ولكن أبلغ الناس أثراً في مهنهم ممن رأيت هم أولئك الذين حولوا الألم الأشد في حياتهم إلى مجال غراسهم ، انظر إلى أول من بدأ مهنة الإرشاد النفسي مثلا، انظر إلى من يعمل الآن في أي مجال أو ينتج أي منتج أمامك أو يقدم أي خدمة تستخدمها ، ألم تكن ابتداءً حاجةً تاقتْ نفسه إليها وتألمتْ لعدم وجودها فحول ألمه إلى أمل لغيره وصنع من محنته منحة لمن بعده ؟ فابحث عما يؤلمك بشدة ويغضبك وجوده فربما تكون قد وجدتَ مهمتك التالية.
الصورة هي غلاف الكتاب الذي تحدثت عنه في بداية المقالة والصورة لفتيات من القرية بدأن التعلم
رااااائعة كالعادة 😍😍