( تحتاج ل7 دقائق للقراءة)
منذ قرابة الشهر أتابع ما ينشره صديقي المصمم Rascho Kardo على حسابه هنا من لوحات فنية تعرض حالات اجتماعية أو نفسية مختلفة ، في أحيان كثيرة وبينما أرى أحد قطعه الفنية أتأمل معنىً قد لا يمكن للأوراق البحثية التي بين يدينا أن تصوغه بدقة المفردات والنماذج العلمية، أو على أقل تقدير قد لا يمكن لها أن تصوغ المعنى المعروض بشكل أعمق أو أكثر تعبيرا من هذه اللوحات.
و في نهاية الأسبوع ، وأنا في طريقي إلى الصالة السنوية المفتوحة – وهو معرض فني بالتشارك يحدث في برلين بشارع مفتوح كبادرة مجتمعية تهدف لتغيير الحالة المعتادة من “رأسملة” الفن واحتكاره بصالات العرض البراقة مما يحصره عادةً على الطبقات الميسورة و يضيّق فضاء الفنانين إلى عالم البورجوا المادي – سئلت من أحدهم: ما الذي يجعل باحثا مهتما بالمنهج العلمي يذهب لمعرض فني يخرج المبدعون فيه إلى فضاءات من الجنون التخيلي واللامنطقي والخالي من المعنى أحياناً ؟ (و هذا موقعهم )
ما الذي يضيفه الفن لحياة الناس؟ للمجتمع؟ للتقدم التكنولوجي؟ هل يمكن للفن أن يحدث (أي) تغيير يذكر؟ هل هناك طريقة لدراسة أثر الفنون المجردة و تفاعلها مع بيئات معينة لإنعاش أو تثبيط أو تطوير فكرة ما؟ هل يمكن أن يكون في الفن صوت مستقبلي للعلم أو للتنمية ؟
ربما ألحظ وتلحظ أن الفن مهما كان بسيطا وإن أتى من طفل أو هاوٍ مبتدئ فإن له قدرة استباقية مستقبلية النظرة (كلوحة مدرسة أثينا الشهيرة و التي كتب عنها هنا أشرف فقيه) ، يندفع الفن أحيانا بجرأة إلى تجريب ما لم يجرؤ بعد أحد على اقتحامه في مختبرات العلم أو لم تصل إليه بعد أدوات بناء المعرفة ، كمن يأتيك برغيف خبز ساخن من فرنه ولكنك بعد لم تذق الخبز ولم تعرف أن اسمه الخبز ! دوره هذا في فتح النوافذ المغلقة يتعطل إن لم يهتم الباحثون بقراءته بإمعان والاطلاع عليه بعين العقل المفتوحة على مصارعها ومن ثم العودة بآفاق أرحب لمجالاتهم فيدفع بعجلة أسئلتهم إلى الأمام، وهذا التفاعل المرن بين العالمين البحثي المجرد و الفني المجرد يحتاج ليحدث بين العالمين وهذه إحدى ميزات برلين لمن أراد الاستفادة منها ، و يمكن لشخص آخر أن يستهزئ بها كما فعلت زميلتي حين زرنا العام الماضي معرضا لباحثة تركت علوم الدماغ و قررت أن تخصص وقتها للفن الذي تستوحيه من الصور الدماغية !
لماذا يحتاج هذا ليحدث ؟ لأنك قد تقرأ في عمل فني مالا يمكن بعد التعبير عنه بالقاموس اللغوي لمجال ما، أذكر أن هاينز بيرغرون (Heinz Berggruen) وهو جامع لأعمال فان غوخ و بيكاسو تحول بيته لصالة عرض مقابل قصر شارلوته ببرلين قرأت له مرة: أن أفضل طريقة لتذوق الفن هي أن تقف أمام العمل – دون وجود صاحبه – فتسأل العمل ماذا يريد أن يقول لك ثم تنصت ، ويقال أيضا أنه حينها سيقول لك العمل غير ما سيقوله لشخص آخر يحمل تجارب مختلفة و يهتم حاليا بقضايا وأسئلة تعتلج بداخله غير التي تهمك وهكذا فيمكنه أن يلهم عدة مجالات بطرق مختلفة تماما تتشكل من التفاعل معه، وقد تلهمك أنت بوقت ما غير ما تلهمك به في وقت آخر، ولانني لاحظت حدوث هذا قمت بتشكيل قائمة هنا لفنون حدثتني بما كتبته في وقت ما ، عدت لها بعد فترة فوجدت أنها يمكن أن تحدثني بغيره أيضا فوجدت ضرورة تدوينه هنا.
ورغم أنني أتحدث عن لون واحد للفنون و عن مجال واحد من العلوم ، إلا أن هذا يمكن أن يعمم ربما على بقية المجالات ، مثلا كان مما اطلعت عليه في رمضان حملة غضب انتشرت حول المسلسلات العربية و سوئها ، وبما أنني طلقتها منذ زمن بعيد، قررت من باب الفضول حول الحملة أن أستشير الحبيب غوغل فيما إذا كان هناك أي محاولات فنية لتطوير هذا القطاع ولو بسيطة فكان أجمل ما توقفت عليه شاب قام بدور أراه رياديا في برنامج فكاهي نقدي اسمه حمصوود Homswood وأعتقد أن فنه هذا إن استثمر جيدا وتم تشبيكه مع مهتمين يمكن له أن يسهم بتطوير لجودة ما يعرض على الشاشة.
ينسجم ما سبق من محاولات لمقاربة هذه العلاقة بين العالمين العلمي والإنساني مع المجموعة الفنية هذه والتي تحاول التعبير عن مقاربات لظاهرة ” الاكتئاب ” النفسية قام بها فنان لم يكن يعرف مم يعاني، و لكنه منذ مراحله الأولى كان يشعر أن شيئا غريبا وغير طبيعي طرأ على عقله، و كان يحاول من خلال فنه أن يفهم حالته و يفسر معاناته لتوثيقها وإيجاد حلول لها ، و رغم أن تاريخ بدء البحث في ظاهرة الاكتئاب يعود للألفية الثانية قبل الميلاد وكان أول ظهور مسجل لها في بلاد ما بين النهرين ، إلا أن الدقة البالغة للمقاربات في اللوحات وكيف فككت المشاعر المحيطة بعالم المكتئب نفسيا قد لا تستطيعها المفردات التحليلية للعلم.
وأترككم مع السؤال الذي يبقى مفتوحا : بم يتحدث إليكم الفن ؟ أو ما الصوت الذي ترون أنه يحدثه في النفس أو في بيئة ما ؟ والذي سأله قبلا آخرين من بينهم أوسكار وايلد بروايته الشهيرة صورة دوريان غراي والتي يمكن للقارئ الرجوع إليها والاستمتاع بما توحيه من أبعاد لتفاعل النفس مع الفن وتفاعل الفن مع المحيط في حكاية درامية قوية
حقوق الصورة أعلاه @ لصديقتي نيكار باهغيروفا و هنا عزف لمقطوعة موسيقية شاهدتها والتقطتها بكاميرتي ، مشاهدة ممتعة.