على بعد ساعة من برلين باتجاه الغرب تقع قرية صغيرة اسمها “ناون” تم تدميرها عن بكرة أبيها أثناء الحرب العالمية الثانية و بحسب بعض المصادر كانت من أشد المناطق تهشماً في مقاطعة براندنبورغ حيث هاجر إليها النازحون من القصف في برلين ، فلاحقهم القصف إليها ولم يترك فيها شيئا لم يسوه بالأرض.
في ناون اليوم مؤسسة تسمى مزارع الفاسنده fassende ، أسسها بقية من نجا من القصف الممنهج حينذاك، أعادوا بناءها من الصفر حجراً حجراً و شجرة شجرة، بعد أن أنهكهم التدمير و أملاً في أن يزرعوا بذرة تحيي نفوسهم التي هشمتها الأحوال و ربما أيضا -إن نجحت- تلهم من يراها بعدهم. شاركني بهذا أحد مسؤولي المزرعة و حدثني أن فكرة المؤسسة تقوم على مبدأ كان يراه الناس ضربا من السفاهة التي لن تنجح في غمرة الحرب، فما هو هذا المبدأ؟
تقوم فكرة المزرعة على مبدأ أخوة البشر و اشتراكهم في المنشأ الأول و تنادي بالتركيز على تعلم الحب و ممارسة العطاء والتوحد تيمناً بأخلاق النبي عيسى وسيرة حياته ، وهذه الفكرة هي المحور لفلسفة حركة الفوكولار (focolare movement) والتي يعود الفضل بإنشائها لراهبة إيطالية بالأربعينات من القرن العشرين بعد الحرب العالمية التانية حيث كان الدمار سائداً بكل أنحاء أوروبا و التفرق منتشراً على جميع الأصعدة والحاجة لبعث روح التوافق بين السكان المحليين في كل منطقة بأشد حالاتها؛ بدأتها عل هذه العلاقة الروحية تكون عامل التقاء للناس تعيد تركيزهم إلى إعادة إعمار البلاد بعد الدمار بدل التركيز إلى اختلافاتهم التي قد تؤجج المزيد من الكوارث.
تتكون المؤسسة من دار للعبادة و بجانبها بيت (أشبه بفندق بسيط) للعيش المشترك ، في الطابق السفلي منه قاعة بسيطة و قبالة المبنى باحة وسطية فيها حشيش و ألعاب و مشوى و حيوانات المزرعة كالمواشي والدواجن و في مبنى مجاور نادٍ للأطفال و مكتبة ملحقة بدار العبادة لا أكثر.
المكان ومفروشاته و طابعه العام يتسم بالأناقة و البساطة حيث يؤمن أصحابه بمبدأ تبسيط الحياة (minimalism)، و تلحظ لبعده عن صخب المدينة الهدوء الشديد الذي يسيطر عليه، و تحيط بالفاسندة الطبيعة من كل الجهات الأربعة وسهول الهافل التابعة لمقاطعة براندنبورغ.
المميز في هذا المشروع عن مشاريع شبيهة أن المكان يستقبل الزوار من كل أنحاء العالم، و يمكنك أن تقضي فيه أسبوعاً ، شهراً ، سنةً أو مدى الحياة بحسب ما تستطيع. لا يطالبك أصحابه بمبلغ مادي لقاء استضافتك، لكن يتم توقيعك على عريضة تقبل فيها أن تساهم في الأعمال اليومية من خبز و عجن و حلب وزراعة و تنظيف و جلسات تأمل ومشاركة اجتماعية و ما إلى ذلك.
تأتي الناس متحمسة في البداية وتظن أنها لن تغادر ، لكنها بعد عدة أيام فقط تكتشف مدى صعوبة العيش دون انترنت ودون هواتف ذكية (فهي ممنوعة هناك) و دون ما تعودنا عليه من تسهيلات المدينة ، ولكن الشرط قائم : إما أن تلتزم بما وافقت عليه وإما أن ترحل.
بعض قوانين المكان مثلاً أن تستيقظ فجراً في الخامسة و تبدأ بمسؤوليات يوزعها عليك مسؤولو المكان لتشعر بقيمة العيش المشترك وأهمية البذل فيه.
بدأت الفكرة تنمو مع الوقت وتكتسب داعمين و مؤيدين ومعجبين و صار للمؤسسة اليوم ١٥٠ فرع حول العالم، زرت المكان و قابلت أحد مؤسسيها ، وهو قس كاثوليكي قال لي : “لم تكن البداية سهلة ، ولم يكن يثق بنا أحد حتى ممن يدين بديننا ، فهم يرون هذا الانفتاح على الآخر تهديد لهويتنا ! لكن اليوم يزورنا ليس فقط مسيحيون من طوائف أخرى بل مسلمون و بوذيون و يهود و لادينييون و كثير من الباحثين عن السلام ، يمكن لكل منهم أن يشاركنا شيئاً من ألوان تعبده ( أو عدم تعبده) ، و نشاركه ألواناً من تعبدنا ولكننا كمؤسسين ننطلق من استلهامنا لهذا الحب والسلام من سيرة عيسى عليه السلام، لكن يمكنك أن تشارك معنا وتعيش ما دمت تحترم البقية، نواجه الكثير من الانتقاد والتشكيك من بعض معتنقي الكاثوليكية ومن بقية الأديان ، ونواجه ضربات قاسية من اليساريين والملاحدة الذين يرون أن مؤسسات كهذه تروج للخزعبلات والخرافة ، لكننا بالحب نمضي و كثير ممن انتقدنا في البدايات أصبح جزءاً من الشبكة العالمية بعد حين.
انتهى اللقاء الملهم (وللمهتمين بتفاصيل أعمق حول نموذج التدفق المالي لهذا المشروع الريادي يمكنهم مراسلتي لمشاركتهم إياه) و ببساطة بالغة وعفوية لم أتوقعها تمت دعوتي لعرس أحد العاملين في المؤسسة صادف حدوثه ذلك اليوم ، و جاء لحضوره من كافة أنحاء العالم أشخاص لا يجمع بينهم لا لون ولا دين ولا جواز سفر ولا لغة ، يجمع بينهم خيار التعايش مع الآخرين بتقبل وسلام ، والعطاء ما استطاعوا إليه سبيلا. انتهت الرحلة وشعرت بأنني كنت في ما يشبه الحلم اليوتوبي الجميل في عالم ديستوبي سوداوي!
و السؤال الذي يطرح نفسه : من منا يحمل من الأمان داخله ما يكفي لينطلق بفكرة مشابهة مستعداً لوضع يده بيد من يختلف عنه جذريا ولا يجمع بينهما أي عامل مشترك ؟ من منا على استعداد لوضع تصوراته عن الآخر وأحقاده التاريخية عليه على الهامش ؟ خرجت من المزرعة وأنا أبحث في رأسي عمن أعتبره عدواً آذاني و بدأت دوامة من التساؤلات : هل أنا مستعدة للعيش معه ، والأكل معه و تشاركه أثر طقوسي التي أحب و السماح له بمشاركتي طقوسه التي يحب ، لا لشيء سوى لنبني معاً عالماً أفضل من عالمينا المختلفين المنغلقين الكارهين لبعضهما ؟ كيف يمكن لمشروع كهذا أن ينطلق في الشرق الأوسط دون أن تشير إليه جميع الفئات بأصابع الاتهام والطعن والإيذاء ؟ كيف ؟
مغامرة و صورة وسؤال (1) – أمان عيد
بعض الصور السريعة التي التقطتها للمزرعة
أحمل في داخلي ذلك السلام الذي يشعرني أحياناً كثيرة بأنني لست في حجم الحرب إنما فعلاً أنا بحجم الثورة،
كثيراً ما يرادوني حلم العودة للحياة المشتركة، كثيراً ما يشغلني ذلك التعايش في وطني وهل من الممكن أن نعود إليه.
تلك المزرعة هي وطن صغير، على من يرغب بالعيش فيه أن يعمل في سبيل بناءه مع الجميع كائناً من يكونوا وكائناً من يكون.
تلك المزرعة حُلم.
شكرا لمرورك وسام ، هكذا أيضا رأيتها
موضوع جميل … والفكرة جميلة …
وهذه الأفكار هي أساس الإسلام والطبيعة البشرية …
فهذه المدينة المنورة أو مكة أو أي مدينة لم توضع أبدا شروط معينة للعيش !! – استثني غدر اليهود من المعادلة مما أدى لإخراجهم –
وكل العظماء في كل زمان ومكان لم ينظروا إلى الإنسان إلا كونه إنسان … بدون أي زوائد أو ألوان …
مرة أخرى الموضوع يستحق إعطاؤه أكثر من مقال
شكرا لمرورك علي، وممتنة لملاحظتك ، نعم هي أساس الإسلام لكن أين نحن منها اليوم ؟
فتحت عيني على أن أفرد للموضوع مقالات أخرى وهذا تبين لي من خلال ردود الفعل، السلام بمعناه المتعارف عليه سقط من ثقة الكثيرين في الشرق الأوسط ، البعض أصبح يراه مرادفا لتزيين الوصاية بغلاف جميل ساذج ، والبعض يراه لم يعد خيارا في وجه كل التحديات التي تحيط بكل بلد عربي، لكن السلم بالمعنى الذي نبحث فيه ونتمناه يحمل عمقاً أبعد من الأجندات. كل التحية