على الحدود بين علوم الاجتماع (sociology) و علوم الإدراك (cognitive sciences) مساحة من الدراسات الممتعة جداً والتي تدرس ديناميكيات التواصل والقيادة وفرق العمل(group dynamics). من هذه البحوث ما يسميه العلماء “النقطة العمياء للمجموعة ذات الرأي الواحد” ، و يفسرونها على أنه وبعد فترة من اجتماع أفراد ذوي توجهات فكرية واحدة لمدة من الزمن يحدث نوع من نمطية الأفكار لديهم و يصبح السائد في اجتماعاتهم ما يسمى بالقطبية اللاإرادية للرأي الجمعي، أي يصبح رأيهم أشبه برأي واحد جماعي متجه إلى تطرف معين بشكل قطبي.

كيف تقيم ذلك؟ قد يبدو ذلك جليا في أسلوب محاكمة المجموعة للأمور و تعاطيهم مع الأحداث و الأفكار الخارجية، ويحدث أن يبدأ ذلك بالتأثير على رأي الفرد فيهم فتصبح الآراء المنفردة بالتدريج ذات صبغة موحدة ونبرة موحدة و بالتالي فإن الجوانب التي قد يتطرف فيها الرأي الجمعي لهم تتنامى بشكل غير صحي، و ما يتبنونه أو يؤيدونه يتوحد مما يؤدي بالضرورة فيصبح للمجموعة نقاط عمياء بطريقة التفكير لا يرونها ( أي الجوانب التي تحدها الرؤية كما في النقطة العمياء لمرآة السيارة) ، ومن هذا التطرف أن يميل أفراد المجموعة لرؤية جوانب التفوق لديهم جمعا أو لأفراد منهم، و للغفلة عن جوانب النقص؛ نحن نتميز بجنسيتنا عن الآخرين بكذا وكذا ، نحن ديننا هو الأفضل في كذا وكذا ، بقية الثقافات أقل قدراً بكذا وكذا.

يمكننا أن نأخذ مثالاً على ذلك: قم بسؤال ثلاث مجموعات مختلفة تماما من المهتمين بالتنمية من دول وخلفيات متباينة لاختيار من يرونه رمزاً في الوطنية والتفاني والعطاء: سترى مثلا الأم تيريزا تتصدر أحد المجموعات بينما غاندي ينال الرتبة في مجموعة أخرى، ولا تستغرب أن يكون هتلر بنظر أحد المجموعات رمزا للوطنية والخلاص، وهكذا! إن السائد في لغة الحوار وكيف يتم تعريف الفكر النير و الخير والوطنية يتباين تباينا هائلا من مجموعة لأخرى، و لو قمنا بعمل استبانة على الشبكة لاستطلاع الآراء بشكل عشوائي سنرى بالضرورة أن النتائج ستختلف في مدى إنسانية أفكارهم و وطنيتها وعالميتها  بحسب بعد واقتراب المشاركين في الاستبانة من الفئة التي يمثلها هؤلاء الثلاثة ومن اعتقادهم لتلك الأفكار، وهذا مجرد مثال بسيط جداً.

وهنا لا بد من الانتباه للفرق بين نصرة فكرة ما و هو أمر لا ضير فيه، كنصرة فكرة أحقية كل شعب بالحياة بكرامة و عدالة وشفافية مادام العمل لهذه الفكرة “حراً” خالصاً متجرداً لا تنبني عليه تبعات الانتماء لأحد كحالة مطالبتك بالانتماء لتوجه ما أو حزب معين ومناصرته بالضرورة لكي يتم اعتبارك وطنيا في بلد ما مثلا أو القضاء عليك.

وقد لا يكون الأمر بهذا السوء للقضاء عليك وإنما قد تجد أحيانا من ينتمي لفئة محدودة كجماعة أو شركة أو حزب أو فئة ما أو لبلد ما بشكل وطني يتعصب للفكر الأحادي للمجموعة التي ينتمي إليها، و بهذا تحصر الجماعة فكر صاحبها و تقزمه عن عالمية إنسانيته و انطلاق إبداعه.

ومن المصادفات الجميلة التي ينبغي ذكرها في هذا السياق كلمة ألمانية جميلة (  stammtischgesprech شتام تيش غيشبريش) تترجم إلى “حوار الطاولة المتأكدة” ، و يستخدمونه رمزياً للتعبير عن حوار يكون أفراده يتناقشون موضوعا بكل ثقة على أنهم أكثر الناس أهلية لنقاشه وفهماً به رغم عدم صحة اعتقادهم حول إحاطتهم فيه بالفعل سوى من زاوية واحدة .

قد يمارَس حوار الطاولة المتأكدة هذا دون انتباه أي منا مع مجموعته الصغيرة التي ينتمي إليها في موضوع ما، و لتحري حيادية الفكر وصحته فلا بد أن نتعلم و نحرص على ألا تكون طاولتنا حين نناقش أمرا كلها ذات رأي مشابه لرأينا، بل أن نسعى دائما للاستماع لأطراف بعيدة تماماً لأن ذلك عادة ما يثري المنتج النهائي بشكل أفضل بكثير حيث يتم التنبيه من خلال المنتقدين  للجوانب التي تحد من سعة الرأي وتقزمه. وممارسة الاهتلاف دون الوقوع في خلاف.

و قد يحدث أن يمر المرء في مراحل من حياته بمواقف يسأل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر حول رأيه تجاه قضية ما بسؤال قطبي من نوع: هل أنت معنا أم لست معنا ؟ ليحصل على دعم مجموعات معينة أو ليتم إسقاطه من حساباتهم أو لتتم محاربته أحياناً ، حتى على مستوى الدعم النفسي. وكيف يمكن لصاحب الفكر الحر أن ينتمي جزئيا لكل منها وألا ينتمي كليا إلا لذاته؟ ولكن و من وجهة نظر المجموعة من الداخل قد يتم اعتباره غير منتمٍ  وربما تذهب لأبعد من ذلك لاعتبار عدم انتمائه علامة تجعله الشخص المشبوه الذي ربما هو سبب من أسباب الخطر على المجموعة بتخريب عقلية الجماعة المنسجم أو هز استقرارهم بدعم مجموعات أخرى تنافسهم للأسف، وذلك للجهل الذي قد يسود بعض البيئات و يجعل ديناميكيات التعامل في المجتمعات معقدا مبنيا على الانتماء والولاء، ولهذا فالوعي لهذه الفكرة الهامة لقطبية الجماعة وأثرها على الوعي الجمعي ضرورة لأي جماعة وللانتباه إلى أن صحتها مرهونة بقياس مرونتها لاحتواء جميع الرؤى و إمكانية تواصل هذه الرؤى معا وبسلاسة ضمن بوتقتها !

و في نقاش جرى مع بعض الأساتذة حول هذا المعنى أثرى منسق مجموعة مفكر الفكرة بقوله: “تضطر الجماعات السياسية والدينية عموماً إلى تنميط الأفكار وتخزينها معلبة في رؤوس أتباعها وذلك لضرورة التحشيد والحفاظ على تماسك الجماعة لتشكل جسماً صلباً تضرب به مخالفيها؛ بل يسعى بعضهم إلى إضعاف العقلية النقدية لدى المنتمين إليها لذات الأغراض المذكورة ومن هنا يأتي التعارض بين الانتماء والتفكير الموضوعي”.

وأضاف رئيس مجلس إدارة مركز للدراسات الفكرية: “بالنسبة للجماعات فقد تكون عقلية هيمنة الجماعة على الساحة أقوى من عقلية التشارك في صناعة الساحة، و داخل الجماعة عقلية غلبة فريق للآخر أقوى من عقلية تغليب مصلحة الجماعة ، فرق بين عقلية التبرير التي كانت تحكم بعض الجماعات وبين عقلية التغيير التي استطاع البعض تبنيها خارج أسوار الجماعات، وهذا الفارق الجوهري بين سلطوية التفكير بدل تشاركه وبين الغلبة للرأي بدل المصلحة يمكنه أن يسبب خللاً حضارياً حيث تتجه الجماعات من خدمة الأمة إلى خدمة أنصارها. إن العمل الجماعي المفتوح هو ما يرقى بأي جماعة ويأخذ بها إلى العالمية لا الفردية ولا محدودية الجماعة”.

_______________________________

مقتطفات من دراسات الإدراك المعرفي (3)

حقوق الصورة محفوظة لدى shutterspeed.com