لماذا نحب أن نقرأ للبعض بشغف في حين نجد أنفسنا نترك كتاباً ما بعد أول صفحة فيه ؟ و لماذا نتصفح الشبكة فتستوقفنا مقالة ما دون غيرها من ملايين المقالات المنشورة يومياً ؟
يشغل هذا السؤال مجموعة من العلماء في جامعة ستانفورد في مختبرات اتخاذ القرار والتعلم بقيادة البروفيسور ألان شونفيلد منذ سنين، بدراستهم لعملية الكتابة و تحديد مناطق الدماغ المفعلة أثناء ممارسة نشاط الكتابة وجدوا أن الكتابة – تماماً كالرياضيات والفيزياء – مجال من المجالات التي تستخدم مهارات حل المشكلات في الدماغ ! الكتابة نشاط من أنشطة حل المشكلات !
ما يعني أنه تماما كأي مسألة رياضية أو فيزيائية يتعامل الدماغ مع كتابة مقالة أو فقرة حول موضوع ما كمشكلة تحتاج لحل، و قد أورد د. ألان شونفيد في بحثه محاور حل المشكلات التي تشكل قاعدة لحل أي مشكلة تعلمية برأيه ، سأوردها هنا كأسس يمكن على أساسها أن نختار ما الذي نقرأه من أنواع المعرفة، و يساعدنا بتحديد مدى نجاح مقالة ما بمعالجتة الكاتب للموضوع المكتوب، فما هي هذه المحاور؟
(١) بنك معارف الكاتب أو محصوله الثقافي في المجال الذي يكتب فيه
فعلى سبيل المثال ، لو وقع تحت يدنا رواية تسرد أحداثها في فترة سقوط غرناطة ، قراءتنا للرواية ومجرياتها قد يعطي انطباعا عن أسباب سقوط غرناطة أو غيرها من الأحداث التاريخية ، دون معرفتنا بالأجزاء المؤرخة حقيقة والأجزاء التي أدرجها الكاتب للأغراض الروائية ، دون أن نعرف مدى وضلوع كاتبها بالتأريخ وأصوله وهكذا. فلابد للقارئ أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين معارف الكاتب وبين ما يقدمه لنا ، أهمية ذلك تكمن في تقييم وزن ما نقرأ وهل يحقق الهدف الذي نقرأ من أجله أم لا؟ هل نقرأ الرواية للبصيرة والبعد الإنساني أم نقرؤها لنستخلص أحداثا ونعايشها؟
مثال آخر مما نقرؤه يوميا في الشبكة من مقالات تعج بالتجارب البشرية ، في كثير من الأحيان عناوين مثل “كيف تتعلم الكمبيوتر في عشرة أيام” و “كيف تعالج القلق بخمس خطوات” و “كيف تتغلبين على آثار حبك الأخير ” ، وفي كثير منها لا يعدو كاتبها أن شكّل فكرته حول موضوع ما من مشاهداته المحدودة أو من تجربته الفردية البسيطة، فنقلها للقراء دون دراستها بشكل علمي مستفيض بآليات البحث الدقيقة ، مما يجعل المقروء سطحياً جداً و لا يمكن تعميمه ويأتي القارئ فينهل منها على أنه يقرأ لخبير مخضرم ! ولذا فليست كل مقالة بدأت ب: أثبتت الدراسات ، مقالة علمية تستحق الأخذ بمحتواها على الإطلاق. هل نقرأ للتجربة البشرية وإثرائها أم نقرأ لنؤسس معرفتنا في علم ما؟ لابد من أن يتفق هدف القراءة مع بنك معارف الكاتب لتتحقق الفائدة. ففي حين قد يكون هدف الكاتب التفريغ عن بعض ما يعج بذهنه (فضفضة) ، أو قد يكون هدفه مثلا الشعور بالحاجة للثورة على شيء ما ، أو غيرها ، قد لا يتفق هذا الهدف إطلاقا مع سبب اختيار القارئ للمقالة ، بل قد يشتت القارئ تماماً !
(٢) أسلوب الكاتب بعرض أفكاره
أسلوب الكاتب في كيفية التدرج من عرض مشكلة إلى الحل أو لخاتمة مقالته و لإيصال هدفها للقارئ ، و مثال ذلك مقالات الشحن الأخلاقي التي لا ترابط فيها بين المشكلة وحلها ، و التي يتم تناقل الآلاف منها في وسائل التواصل الاجتماعي كل لحظة، كم مرة قرأنا مقالة عن أثر الكذب على شخص ما بأن من كذب في بداية المقالة تعرض لحرق محصولاته في آخرها، وبالتالي فالكذب يجلب المتاعب والمصائب ، فلتكون الخلاصة: لا تكذبوا !
وبالرغم من لطف النية التي تصحب المقالة ونبل هدفها ، إلا أن إجراء تحليل بسيط لأسلوب الكاتب الاستنتاجي ، نجد أنه غير ناضج منطقيا على الإطلاق ، فقد تحترق محاصيل الصادق أيضا! و حدوث ارتباط بين مصيبة لشخص ما وبين سلوكه أمر لا يمكن تعميمه البتة! نحن نوزع الأقدار فنقول حين يصاب من نعتقد به خيرا “ابتلاء” ونقول حين يصاب من لا نحب بأنه وقع في “عقاب” أعماله وهذا تأول لا صحة فيه.
قد يكون المثال المعروض هنا بسيطا وشديد الوضوح ، ولكن الأمثلة على ذلك من المقالات التي نرى فيها أسلوب الكاتب باستنتاجه وخلوصه لنتائجه بشكل غير مقبول منطقيا أو علميا لا يمكن حدها!
المصيبة تكمن في المقالات ذات الطابع التعميمي من مثل مقالة تنادي بضرورة إيقاف كل ما هو غربي لأن المطربة الغربية الفلانية وهبت مالها لجمعية ضد العالم العربي ! أو مقالة تحشد العواطف بأن الإسلام أثبت نفسه صحيحا لأن النجم الفلاني أسلم! لابد للقارئ أن يبتعد عن النص قليلا وينظر له بعين الناقد : هل هناك تسلسل منطقي للمعروض في هذا المحتوى ؟ وهكذا.
(٣) طريقة معالجة الكاتب لمصادره و للوقت و لاهتمامات القراء وانتباههم
من يكتب منا يدرك أن الكتابة الحرة تختلف اختلافاً جذرياً عن الكتابة لشريحة من الجمهور في مجلة علمية مثلا وعن الكتابة لسرد تحليل في جريدة يومية أو غيرها.
إن الكاتب حين يضع باعتباره احترام اهتمامات القراء الذين يهتم لقراءتهم إياه يجعله ينتقي ماذا يريد أن يقدم لهم مما يحترم فكرهم، وبهذا يختلف عن سواه ممن يكتب ، يختلف بانتقاء مصادره بدقة، ومعالجتها بحذق، واختصارها لتناسب سرعة نقل المعلومة اليوم، وبالتالي يجتذب شريحة من القراء لا تقرأ الغث والسمين الذي يجتره الآلاف.
مثال ذلك ، تخيل أستاذا يطلب من تلاميذه مقالة عن الأم ، ستجد في 95% من المقالات المكتوبة عبارة “الأم مدرسة”، أو مقالة عن العلم فستجد في 95% من المقالات المكتوبة عبارة “العلم نور”، أو مقالة عن الماء فستجد في 95% من المقالات المكتوبة عبارة “الماء عصب الحياة ” ، دون وقوف استقرائي على العبارات المألوفة (الكليشيهات) والأفكار المتداولة المجترة دون وعي أحيانا لمحتواها ، دونما بصيرة ! تخيل مدى استفادتنا كقراء حين تعالج الكتابة معنىً جديد ، حين تستخرج من المعنى المكرر طفلا جديدا حديث الولادة ، أو حين تغرس المقالة بين أيدينا بذرة لتساؤل جديد بمعالجة سليمة البناء، تخيل الفرق الذي تحدثه!
(٤) وأخيرا قناعات الكاتب المرتبطة بالموضوع المكتوب
فحين نقرأ مقالة ، لابد أن ندرك أن هناك كمجموعة من القناعات التي تنطوي تحتها ضمنياً ، فحين يكتب موظف يعاني من غطرسة مديره في العمل مقالة عن الفرق بين المدير والقائد ، يبدو لي جلياً أنه مقتنع ضمنياً أن مديره لايتمتع بصفة القيادة ، في حين أن كلاً منا لديه نسبة من حسن الإدارة والقيادة مثلاً ، ومثال آخر ، حين نقرأ في إحدى الصحف مثلاً مقالة سياسية كتحليل لحدث ما ، لابد أن يتذكر القارئ أن قناعة الصحيفة والحكومة القائمة عليها تشكل عاملاً رئيسا ينحاز بالمقالات فيها باتجاه قناعاتها أو قناعاتها المفروضة عليها.
لماذا اشارككم بهذا ؟
لأن انتقاء من نقرأ لهم في العصر الذي يكتب فيه الجميع، للجميع، يشكل جزءًا كبيرا من شخصياتنا و عقولنا ، يشارك الناس اليوم في الثانية الواحدة عبر تويتر وحده أكثر من 500 ملايين تغريدة في اليوم الواحد! وبالتالي تخيل هذه المعلومات الملقاة إلينا كم تشكل من عقولنا و قناعاتنا و من نكون غدا، يمكن لقارئي الكريم الآن إجراء تجربة بسيطة بأخذ ثلاث عينات من المقالات المتبادلة على الشبكة ، وتقييمها بناءً على هذه العوامل المبينة أعلاه، ليجد بنفسه أن الكثير مما يمر علينا لا يستحق الوقوف عنده، بل إن غالبه يمكن القاؤه في سلة المهملات لفشل أو ضعف إحدى العناصر فيه!
وقد تكونت لدي عادة، أن أجري تدقيقاً للعناصر السابقة فيما أقرأ اليوم فوفرت على نفسي الكثير ، وتغيرت نسبة استفادتي منه بشكل كبير.
لننتق ما نقرأ ولننتق ما نكتب، تحيتي وتمنياتي بقراءة ماتعة
———————————————————-
مختارات من دراسات الإدراك المعرفي (1)
الصورة حقوقها محفوظة من الموقع الذي باعها لي shutterspeed.com